التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن أَحْمد بن عبد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد مر غير مرّة أَن أَصله: بَين، فزيدت عَلَيْهِ: الْألف وَالْمِيم، وأضيف إِلَى الْجُمْلَة بعده. وَقَوله: (إِذا أَقبلت) جَوَابه، ويروى: (بَينا) بِدُونِ الْمِيم. قَوْله: (نَحن نصلي) ظَاهره أَن انفضاضهم كَانَ بعد دُخُولهمْ فِي الصَّلَاة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة خَالِد بن عبد الله عِنْد أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : (بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الصَّلَاة) . وَلَكِن وَقع عِنْد مُسلم: (وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يخْطب) وَله فِي رِوَايَة: (بَينا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِم) وَزَاد أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيقه: (يخْطب) . فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الْكَلَامَيْنِ؟ قلت: قَالُوا: قَوْله: (نصلي) أَي: نَنْتَظِر الصَّلَاة، وَهُوَ معنى: قَوْله: (فِي الصَّلَاة) فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي الْخطْبَة، وَهُوَ من تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا قاربه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمرَاد بِالصَّلَاةِ انتظارها فِي حَال الْخطْبَة ليُوَافق رِوَايَة مُسلم، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَعْنَاهُ حَضَرنَا الصَّلَاة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْمئِذٍ قَائِما، وَبَين هَذَا فِي حَدِيث جَابر أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يخْطب قَائِما. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْأَشْبَه أَن يكون الصَّحِيح رِوَايَة من روى أَن ذَلِك كَانَ فِي الْخطْبَة. قلت: إِخْرَاج كَلَام جَابر الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ يُؤَدِّي إِلَى عدم مطابقته للتَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ وضع التَّرْجَمَة فِي نفور الْقَوْم عَن الإِمَام وَهُوَ فِي الصَّلَاة، وَمَا ذكره يدل على أَنهم نفروا وَالْإِمَام يخْطب. قَوْله: (عير) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهِي الْإِبِل الَّتِي تحمل التِّجَارَة طَعَاما كَانَت أَو غَيره، وَهِي مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأذن مُؤذن أيتها العير} (يُوسُف: 70) . إِنَّهَا الْإِبِل الَّتِي عَلَيْهَا الْأَحْمَال لِأَنَّهَا تعير أَي: تذْهب وتجيء. وَقيل: هِيَ قافلة الْحمير، ثمَّ كثر حَتَّى قيل لكل قافلة: عير، كَأَنَّهَا جمع: عير، بِفَتْح الْعين وَالْمرَاد: أَصْحَاب العير، فعلى هَذَا إِسْنَاد الإقبال إِلَى العير مجَاز وَفِي (الْمُحكم) : وَالْجمع: عيرات وعير، وَنقل عبد الْحق فِي جمعه: أَن البُخَارِيّ لم يخرج قَوْله: (إِذا أَقبلت عير تحمل طَعَاما) ، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ ثَبت هُنَا وَفِي أَوَائِل الْبيُوع، نعم سقط ذَلِك فِي التَّفْسِير. وَزَاد البُخَارِيّ فِي الْبيُوع، أَنَّهَا أَقبلت من الشَّام، وَمثله لمُسلم من طَرِيق جرير عَن حُصَيْن فَإِن قلت: لمن كَانَت العير الْمَذْكُورَة؟ قلت: فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ أَن الَّذِي قدم بهَا من الشَّام هُوَ دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ، وَقَالَ السُّهيْلي: ذكر أهل الحَدِيث أَن دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ قدم من الشَّام بعير لَهُ تحمل طَعَاما وَبرا، وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك مُحْتَاجين، فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتركُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: جائت عير لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: قيل جمع بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن التِّجَارَة كَانَت لعبد الرَّحْمَن وَكَانَ دحْيَة السفير فِيهَا. قلت: يحْتَمل أَن يَكُونَا مشتركين فَصحت نسبتها لكل مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَار. قَوْله: (فالتفتوا إِلَيْهَا) أَي: إِلَى العير، وَفِي رِوَايَة ابْن فُضَيْل فِي الْبيُوع: (فانفض النَّاس) أَي: فَتفرق النَّاس، وَهُوَ مُوَافق لنَصّ الْقُرْآن، فَدلَّ هَذَا على أَن المُرَاد من الِالْتِفَات: الِانْصِرَاف، وَبِهَذَا يرد على من حمل الِالْتِفَات على ظَاهره حَيْثُ قَالَ: لَا يفهم من هَذَا الِانْصِرَاف عَن الصَّلَاة وقطعها، وَإِنَّمَا الَّذِي يفهم مِنْهُ التفاتهم بِوُجُوهِهِمْ أَو بقلوبهم، وَيرد هَذَا أَيْضا قَوْله: (حَتَّى مَا بَقِي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا اثْنَا عشر رجلا) فَإِن بَقَاء اثْنَي عشر رجلا مِنْهُم يدل على أَن البَاقِينَ مَا بقوا مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي قَوْله: (فالتفتوا) ، الْتِفَات لِأَن السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يَقُول: فالتفتنا، وَكَأن النُّكْتَة فِي عدُول جَابر عَن ذَلِك أَنه هُوَ لم يكن مِمَّن الْتفت. قلت: لَيْسَ فِيهِ الْتِفَات، لِأَن جَابِرا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ من الاثْنَي عشر، على مَا جَاءَ أَنه قَالَ: وَأَنا فيهم، فَيكون هَذَا إِخْبَارًا عَن الَّذين انْفَضُّوا، فَلَا عدُول فِيهِ عَن الأَصْل. قَوْله: (إلاّ اثْنَا عشر) اسْتثِْنَاء من الضَّمِير الَّذِي فِي لَفظه: بَقِي، الَّذِي يعود إِلَى الْمُصَلِّي، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب، وَجَاءَت الرِّوَايَة بهما، وَلَا يُقَال: إِن الِاسْتِثْنَاء مفرغ، فَيتَعَيَّن الرّفْع لِأَن إعرابه على حسب العوامل، لِأَن مَا ذكر يمْنَع أَن يكون مفرغا. وَهنا وَجه آخر لجَوَاز الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فَيكون الْمُسْتَثْنى فِيهِ محذوفا تَقْدِيره: مَا بَقِي أحد مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ عدد كَانُوا اثْنَي عشر رجلا، وَأما النصب فلإعطاء اثْنَي عشر حكم أخواته الَّتِي هِيَ ثَلَاثَة عشر وَأَرْبَعَة عشر وَغَيرهمَا، لِأَن الأَصْل فِيهَا الْبناء لتضمنها الْحَرْف. فَافْهَم.
ثمَّ تعْيين عدد الَّذين بقوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا هُوَ فِي (الصَّحِيح) وهم: اثْنَي عشر، وَفِي الدَّارَقُطْنِيّ لَيْسَ مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ أَرْبَعِينَ رجلا أَنا فيهم، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يقل كَذَلِك