تعيش الحضارة في مرحلة التخلق ندرة في الموارد تمنح الفكرة الحضارية فرصة التفرّد لتكون المورد الأم والخيار الوحيد والأمل المطلق، ولن يكون رأسمالها على هذا الأساس وضمن معطيات الندرة إلا الإنسان، إنسان الحضارة أو الفطرة، تعوّل على إمكاناته الذاتية وقواه التي تطلقها من كمونها وتعيد شحنها بطاقتها الخاصة؛ لتجعله نموذجًا حيًا لها، وذراعًا مادية تمارس بها إرادتها في عالم الواقع. إن الفكرة عندما تتملك الذات تعيد تقويم الأشياء من خلالها، وتكون قادرة على تحريكها، وفي الوقت نفسه فإن الذات عندما تتيقن الفكرة، وتتمثلها، تطلقها - أي الفكرة - من عالم المثل وتمنحها وجودًا ماديًا معايَنًا في سلوك وممارسات قابلة للتمثل والاقتداء، وتهيئ لها فرصة الانتشار والتأصّل، أي إن التحقّق في كينونة إنسانية هو غاية ووسيلة معًا، وهو يستعين بالإيقان ويعين عليه.
قلنا إنه بقدر تفرّد الفكرة وقدرتها على التحول إلى كيان إنساني حي يستحكم اليقين ويقوى، وحين تتضاعف المكاسب ويغرق المجتمع في الوفرة تظهر المنافِسات ويهتزّ ذاك اليقين ويتهرّأ، ويضعف استقطاب الفكرة وتتشتّت الولاءات، والأمل المنعقد على تحقق الفكرة يتجاوزها - بعد الاطمئنان إلى المنجَز - إلى ما تتضمنه داخلها من مصالح تستقطب الولاء والطموح وإليها ينقلب اليقين. ومع أن الفكرة الحضارية ما زالت مثمرة إلا أنها تتحول من دور تتحقق الفكرة فيه من خلال العالم الواقعي، إلى دور يتحقق العالم الواقعي من خلالها، ومن أن تكون غاية إلى أن تصير وسيلة، وحين كان مطلوبًا من الجماعة أن تنخرط كلاً واحدًا في معركة البناء لتحقق طموحات الجماعة ومصالحها، وأن تتنافس في الفكرة بدافع من