النون والذال معا، لكنها جاءت في آية: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ [القمر: 36] في غاية الفصاحة، وجمال الموقع في حسّ السمع، وذلك بما سبقها من القلقلة في دال «لقد» وطاء «بطشتنا»، والفتحات المتوالية في «فتماروا»، التي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة خفيفا عليه. وتأتي اللفظة متمكنة في موضعها مستقرّة في قرارها إلى أقصى غاية، مع أدائها المعنى المراد غاية الأداء».
وذلك أن الكلمة القرآنية تقدم للقارئ صورة فنية، وتستقل برسم مشهد، أو نقل حركة، أو تشخيص فكرة، بل إنها تقدّم لنا ما يسميه العصريون «التجسيم»، تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات، لتزيد المعنى تمكنا من النفس وتأثيرا فيها (?).
ومن ذلك مثلا قوله تعالى في اليهود: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] فلننظر «تلك الصورة الساخرة الهازلة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت به هذه الصورة المجسّمة لتؤدّيه، وهو حبّ اليهود الشديد لعبادة العجل» الذي صنع لهم من الذهب.
واقرأ كذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج:
11]. تأمل كلمة «حرف» ومعناه الطرف من الشيء، «إنّ الخيال ليكاد يجسّم هذا الحرف الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس، وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب المحسوس
في وقفتهم، وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب».
فقد جاءت عبارات القرآن الكريم عن القضايا الكونية بطريقة عجيبة