والكتب والكراريس، وهم لا يحبون للراوي أن يروي إلا ما سمعه بأذنه مخافة التحريف والتصحيف، وحسن الظن به بعضهم الآخر كالإمام مالك بن أنس الذي كان يفضل روايته على ابن إسحاق، وكأبي عبيد القاسم بن سلام، وكالإمام الشافعي، ولكن جمهرة المحدثين على التردد في أمره ولا سيما لما عرفوه عنه من شدة اتصاله بالعباسيين حتى تلاعب ببعض الأخبار جريًا مع هواه لبني العباس، فحذف اسم العباس عم النبي من قائمة الأسرى الذين وقعوا يوم بدر في أيدي المسلمين، كأنه عز عليه - وهو العباسي الهوى - أَنْ يُؤْسَرَ عَمُّ النَّبِيِّ الكَرِيمِ. لكن هذا التردد في قبول أخبار الرجل لم يكن له فيما يتعلق بابن سعد خاصة إلا أَصْدَاءٌ خِفَافٌ، فإن أكثرهم قالوا - كما أسلفنا -: «ثِقَةٌ مَعَ أَنَّ أُسْتَاذَهُ ضَعِيفٌ».
إن ابن سعد - كما قال ابن النديم بحق - «أَلَّفَ كُتُبَهُ مِنْ تَصْنِيفَاتِ الوَاقِدِيِّ»، فإنه لا يكاد ينسى في طبقة ترجم لها أو باب عقده لغزوة من غزوات النبي اسم شيخه الواقدي في سلسلة الإسناد، بيد أنه - رغم ذكره إياه - يغربل الرواية التي يذكرها له، أو يعضدها برواية أخرى لغيره من المشتغلين بالأنساب والمغازي والفتوح، فهو مثلاً حين يتحدث عن الوفود التي وفدت على الرسول لا يكتفي برواية شيخه الواقدي بل يضع إلى جانب اسمه هشام بن محمد بن السائب الكلبي. وربما اتفق له أن يجدد بعض الفصول التي لم يجد لشيخه فيها رواية، كمباحثه في كنية رسول الله، وما كان رسول الله يَعُوذُ بِهِ وَيُعَوِّذُهُ بِهِ جبريل، وأنساب الجاهليين وسير الأنبياء والأمم السابقة التي اتضح أن الواقدي لم يكن يحتفل بأمرها كثيرًا.