الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جُلَّ أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم، وحديث رسول الله حِينَئِذٍ أكثر مِنْ أَنْ يُحْصُوهُ، فله في كل حادثة قول، وفي كل استفتاء توضيح، وفي كثير من الوحي القرآني تبيان وتفسير، فَأَنَّى لِلْكَتَبَةِ مِنْهُمْ الوَقْتُ لمتابعة الرسول - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في كتابة جميع ما يقوله أو يعمله أَوْ يُقِرُّ الناس عليه! وإذا اندفع بعض هؤلاء الكاتبين إلى تقييد جميع ما سمعه ورآه من النَّبِيِّ العظيم، فهل يمكن أَنْ يتماثلوا كلهم في هذا الاندفاع بحيث لا يفوت أَحَدًا منهم شيء؟
إِنَّ الأقرب إلى المنطق والصواب أَنَّ أَفْرَادًا منهم وجدوا من البواعث النفسية ما حملهم على العناية بكتابة أكثر ما سمعوه - وربما كل ما سمعوه - وَأَقَرَّهُمْ على ذلك رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُمِنَ الْتِبَاسُ السُنَّةِ بِالقُرْآنِ، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب لكنه مشغول بالقرآن شُغْلاً لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أُمِيٍّ يحفظ من القرآن والحديث مَا تَيَسَّرَ له في صدره، وهو ما كان عليه أكثر الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره.
وانصراف الصحابة إلى القرآن جَمْعًا له في الصدور والسطور، واشتغالهم به عن كل شيء سواه، كان جُزْءًا من التوجيه النبوي الحكيم لهؤلاء التلامذة الخالدين من الأُمِيِّينَ وَالكَاتِبِينَ: وهو توجيه مُتَدَرِّجٌ من الحياة والأحياء، متطور مع الأحداث التي تعاقبت على المجتمع الإسلامي، فما كان لهذا التوجيه أَنْ يجمد على صورة واحدة، بَلْ رُوعِيَ فيه الزمان، وَرُوعِيَتْ الأشخاص،