قال أبو عبد الله محمد بن أحمد العبدي الكانوني (المتوفى سنة 1356 هـ/1935 م): في كتابه جواهر الكمال في تراجم الرجال (137 - 138 - المطبعة العربية بالبيضاء):
وإنما هو مقام كسائر المقامات التي تزار ويتبرك بها.
وقد ابتلي الناس من هذه المقامات بداهية عمياء، إذ بينما نحن ننظر فيما دهينا به من القِبب المزخرفة على أصحابها الحقيقيين، والحال أن الفقراء والمساكين في مضيعة يموتون جوعا، والناس يتباهون في زخرفة الحيطان وتنميقها وإنفاق جلائل الأموال عليها، واتخاذها شبكة لاصطياد الحطام الدنيوي، إذ ظهر لنا ما هو أدهى وأمَرّ، ألا وهو تشييد القبب على مواضع لم يدفن فيها أحد، بل بنيت لمجرد رؤيا منامية، أو لكون الصالح الفلاني مر منها، أو جلس أو أو .. رغبة منهم في جمع الحطام، قبح الله المطامع ولا بارك في أهلها.
وهذا هو السر في كثرتها، كمثل مقامات الشيخ عبد القادر الجيلاني مع أنه لم يدخل المغرب قط. وقد شيدت قبة بقبيلة عبدة حوز آسفي أواسط القرن الماضي بموضع عُرف بالمقام ادُعي أنه مقامه، بناها رجل اسمه الحاج سلام، شرَّق وزار الشيخ عبد القادر، ولما رجع بنى له هذه القبة، ليستغلها جزاء رحلته إليه.
وبفاس خصص الجهلة ناحية من كلية القرويين، وسموها خلوة الشيخ عبد القادر، ويتمسحون بالماء المار محاذيا لها خارج المسجد.
وبدكالة قبة الزعيم السيد محمد العياشي مع أنه لم يمت هناك.
وبسوس قبة سيدنا علي بن أبي طالب يقام عليها موسم سنوي، مع أنه لم يدخل المغرب.
وبالجديدة سيدي الضاوي وسيدي بوافي، ولم يتحقق هناك أحد إلا أنهما كانا مركزين للمجاهدين، بل هذا صاحبنا سيدي محمد بن الزبير الناصري الذي توفي بآسفي سنة 1340 وهذا مقامه بدكالة بموضع يعرف "حدير" يزار ويتبرك به، وقد كان شُرع في البنيان عليه.
ولم يكتف الناس بتشييد القبب على الإنس حتى تخطوا ذلك إلى الجن، فهذا مقام شمهروش الجني بجبل "غيغاية" بأحواز مراكش للناس به ولوع.
ولو استرسلت في البحث لكان العدد أكثر والأمر أفظع، فإن ذلك دليل على ضعف الوازع الديني، وقلة اليقين بالله، حيث لم يقف الناس عند حد التغالي في الصالحين، ونسبة إدرار الأرزاق على الخلق إليهم، وأنهم هم المتصرفون في الكون، فلا يعطى شيء لأحد إلا من تحت أيديهم، حتى تجاوزوه إلى التغالي في المواضع الموهومة، وشد الرحلة إليها، والإفراط في تعظيمها، وشييد البنيان عليها، بإنفاق جلائل الأموال.
ولعمري إنه لو كان ينزل الوحي من السماء بعد النبي سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لنزل فينا أكثر من الأمم الماضية لارتكابنا أقبح الأفعال وأشنعها من غير خوف من الله ولا وجل.
أليس الذي ينسب إلى الولي أنه يعطي المال والولد والوظائف وكل شيء قد اتخذ مع الله إلها؟
أليس الذي تقول له احلف لي على حقي، يحلف لك ما شئت من المرات، وإذا ذكرت له الحلف بالولي الفلاني فإنه يقف حائرا، لما وقر في قلبه من ذلك الولي؟
أليس إنه خاف الولي أكثر من خوفه الله، وعظمه أشد من تعظيم الله؟ وهذا معنى الربوبية، بل يجب على من له معرفة بقدر الواجب الملقى على عاتقه في حق أمته أن يقوم بالتعليم والإرشاد، وبيان العقيدة الصحيحة، والفرق بين الرب والولي، لنخرج من هذه الهوة السحيقة والمفازة المهلكة، التي أوقعنا فيها الجهل بديننا، والخروج عن تعاليمه النقية، وقد صار سلفنا على منهاجه حتى بلغوا قمة المجد، ودانت لهم البلاد والعباد، ونشروا رواق العدالة والنور على أمم الأرض التي كانت أبعد الناس عن ذلك.
وها نحن قد بدلنا العلم بالجهل، والسيادة بالعبودية، والغنى بالفقر، والعز بالذلة، فيا لله ويا للعقلاء من أمة نسيت مجدها القديم، وجهلت فخرها الصميم، وقنعت من الإسلام بالاسم فقط.
لم تعرف ظاهرة المواسم في المغرب إلا في العصور المتأخرة مع كثرة بناء الأضرحة وانتشار الطرق الصوفية، ولما جاء عهد السلطان العلوي المولى سليمان رحمه الله عاين ما كان يحدث فيها من انحراف وبدع وفسوق وفجور فكان له موقف جريء حيالها، لم يعرف في تاريخ المغرب له نظيرا، فأصدر مرسوما أبطل فيه المواسم ومنع من إقامتها (?).
وأقدم مصدر نشر المرسوم هو الترجمانة الكبرى لأبي القاسم الزياني (466 - فما بعد) (?).