ونظرًا لهذه المكانة الرفيعة التي احتلتها هذه المؤلفات، كان من الضروري معرفة قيمة كل واحد منها إذ لا يكفي في الاعتماد على أحد هذه المصنفات كونه قد وُضِعَ في هذه القرون، وقد تفاوتت فيها، لأن العلماء من تَحَرَّى جمع الصحيح في كتابه، ومنهم من ضَمَّنَ في كتابه الصحيح والحسن والضعيف دون مراعاة منه للصحيح فقط، وَمِمَّنْ تَحَرَّى جمع الصحيح سوى البخاري ومسلم، ابن خُزيمة (311 هـ)، وأبو عوانة (316 هـ)، وابن حبان (345 هـ)، وقد وُفِّقُوا إلى حد كبير في ذلك.
وَجُمِعَتْ كذلك في هذه القرون مُصَنَّفَاتٌ كثر فيها الضعيف من شَاذٍّ ومنكر ومضطرب، مع استتار حال رجالها، وعدم تداول ما شَذَّتْ به أو انفردت، كـ " مسند ابن أبي شيبة " (235 هـ)، والطيالسي (204 هـ)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (249 هـ)، وعبد الرزاق (211 هـ) وَكُتُبُ البيهقي (458 هـ) والطبراني (360 هـ)، والطحاوي (321 هـ). وهذه الطبقة لا يستطيع الاعتماد عليها والاستمداد منها إلا جهابذة المحدثين.
كما جُمِعَتْ في هذه القرون أيضًا مُصَنَّفَاتٌ هزيلة، جُمِعَتْ من أفواه القُصَّاصِ وَالمُؤَرِّخِينَ غير العدول كما في تصانيف ابن مَرْدَوَيْهْ (410 هـ)، وابن شاهين (385 هـ) وأبي الشيخ (369 هـ)، وهذه الطبقة الأخيرة لا يُعَوِّلُ عليها أحد، وتحتاج لجهود كبيرة لتمييز صحيحها من سَقِيمِهَا.
يعتبر هذا القرن نهاية المرحلة الذهبية لتدوين الحديث، ففيه توقف جمع المصادر الأصلية التي امتازت بالأسانيد المتصلة إلى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تعد الرواية بالإسناد معتبرة بعد ذلك، ورفض العلماء الأخذ بحديث لَمْ يَرِدْ عند أحد من الأئمة السابقين، وفي ذلك يقول الإمام البيهقي (458 هـ) على ما ينقله عنه ابن الصلاح في " مقدمته " (?): «فَمَنْ جَاءَ الْيَوْمَ بِحَدِيثٍ لاَ يُوجَدُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَمَنْ جَاءَ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَالذِي يَرْوِيهِ لاَ يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِحَدِيثِهِ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَالْقَصْدُ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَالسَّمَاعِ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْحَدِيثُ مُسَلْسَلاً بِـ (حَدَّثَنَا) وَ (أَخْبَرَنَا)، وَتَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةُ الَّتِي خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الأُمَّةُ شَرَفًا لِنَبِيِّنَا المُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».