وقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". وفي رواية: "علمه الحكمة". وقد انتهت إليه الرياسة في الفتوى والتفسير، وكان أكثر الصحابة إفتاء على الإطلاق، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد الستة المكثرين لرواية الحديث. فقد روي له ألف وستمائة وستون حديثا. اتفق الشيخان منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري منها بمائة وعشرين. ومسلم بتسعة وأربعين، وجل مروياته عن كبار الصحابة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي ولابن عباس ثلاث عشرة سنة، فكان يجتهد في تعرف ما عند الصحابة من حديث وعلم، وكان يقول: وجدت عامة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الأنصار، فإني كنت لآتي الرجل فأجده نائما لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ وأسأله عما أريد ثم أنصرف. ولسعة علمه وقوة حجته وصفاء ذهنه كان عمر يدنيه ويعظمه ويعتد به مع حداثة سنه، ولما قال له عبد الرحمن بن عوف: إن أبناءنا مثله. قال عمر: إنه من حيث تعلم "يريد: قدمه علمه".

وكان من الأدب بمكان، فإذا سأله عمر مع الصحابة يقول: لا أتكلم حتى يتكلموا، وكان عمر يقول له: إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم خلقا، وأفهمهم في كتاب الله. وروى البخاري في تفسير سورة النصر عن ابن عباس أن عمر دعا ذات يوم شيوخ بدر ودعاني معهم، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم، فقال لي: أكذلك يا ابن عباس؟ قلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلن له. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول. وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره. وبالجملة فقد ظهر النبوغ العربي في ابن عباس بأكمل معانيه علما وفصاحة وكمالا وألمعية، وكان واسع الاطلاع في نواح علمية مختلفة، يعرف الشعر، والأنساب، وأيام العرب، ويعلم ما ورد في القرآن، وأسباب نزوله، وحساب الفرائض، والمغازي، ويعرف شيئًا من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل. قال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وكان ابن عمر يقول: "ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد"، وقال عطاء: "ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس"، أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع، وقال عبيد الله بن عبد الله

طور بواسطة نورين ميديا © 2015