فلما نشبت حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق، وأصبح كثير من الصحابة عرضة، لأن يموتوا في هذا القتال، خشي ولاة الأمر أن تضيع صحيفة من القرآن محفوظة عند واحد منهم فأشاروا على أبي بكر أن يجمع كل ما دون فيه من القرآن ويضم بعضه إلى بعض، ويكون من متفرقه مجموعة واحدة، فعهد أبو بكر بهذا إلى زيد بن ثابت -من أشهر كتاب الوحي، ومن أحفظ الصحابة للقرآن- فأخذ زيد في جمع هذه المدونات المفرقة مع مقابلة ما دونه كتاب الوحي بما دونه من دون لنفسه من الصحابة، والمقابلة بين ما دون في السطور وما حفظ في الصدور وأتم جمع ما دون فيه القرآن، وضم بعضه إلى بعض مرتبًا مضبوطا على ملأ من المهاجرين والأنصار، وبقيت هذه المجموعة عند أبي بكر، ثم خلفه في حفظها عمر، ثم خلفته في حفظها أم المؤمنين حفصة بنت عمر.

وفي سنة "20هـ" أخذ الخليفة عثمان بن عفان هذه المجموعة من أم المؤمنين حفصة، وعهد إلى زيد بن ثابت وبعض الصحابة أن يكتبوا منها عدة نسخ لتنشر في أمصار المسلمين حتى يتيسر لكل مسلم الرجوع إلى القرآن، وحتى لا يقع اختلاف بسبب اختلاف لهجات الأداء، وقد كتبوا ست نسخ احتفظ الخليفة عثمان لنفسه بواحدة ووزع الباقيات بالمدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، ودمشق، ووضعت بالمساجد العامة وصارت مرجع المسلمين يحفظون منها، وينقلون عنها بلا تغيير ولا تبديل، والأثر التشريعي الخالد لهذا التدوين أن آيات الأحكام في القرآن بهذا التدوين تواتر نقلها كتابة ومشافهة، وصارت كلها قطعية الورود، وكفى المسلمون عناء الجهود في روايتها وأسانيد رواتها، ولم يطرأ من هذه الناحية أي اختلاف.

وأما المصدر التشريعي الثاني -وهو نصوص الأحكام في السنة- فلم يدون في هذا العهد، كما أن السنة كلها لم تدون فيه؛ لأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فكر في تدوينها، ولكنه بعد التروي والتشاور خشي أن يؤدي تدوينها إلى أن تلتبس الستة بالقرآن؛ فلم ينفذ ما فكر فيه، انقضى القرن الأول الهجري من غير أن تدون السنة ما عدا ما روي من أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كانت له صحيفة اسمها الصادقة دون فيها الأحاديث التي سمعها من رسول الله نفسه.

ولكنهم مع عدم تدوينهم السنة اتخذوا بعض احتياطات رأوا فيها ما يكفل الوثوق من روايتها، وتحرى الرواة في نقلها، فقد كان أبو بكر لا يقبل الحديث من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015