بين المسلمين حتى لا يختلفوا في لفظ، وتناقل المسلمون القرآن كتابة من المصحف المدون، وتلقيا من الحفّاظ أجيالا عن أجيال في عدة قرون. وما اختلف المكتوب منه والمحفوظ، ولا اختلف في لفظة منه صيني ومراكشي ولا بولوني وسوداني، وهذه ملايين المسلمين في مختلف القارات منذ ثلاثة عشر قرناً ونيف وثمانين سنة يقرؤون جميعا لا يختلف فيه فرد عن فرد، ولا أُمّة عن أُمّة، لا بزيادة ولا نقص ولا تغيير أو تبديل أو ترتيب تحقيقا لوعد الله سبحانه، إذ قال عز شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه، ونص ظني الدلالة على حكمه.
فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ، فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير، ومثل قوله تعالى في شأن الزاني والزانية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فهذا قطعي الدلالة على أن حد الزنا مائة جلدة لا أكثر ولا أقل،، وكذا كل نصل دل على فرض في الإرث مقدر أو حد في العقوبة معين أو نصاف محدد.
وأما النص الظني الدلالة: فهو ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني غيره مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] ، فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة على الطهر، ويطلق لغة على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات، فهو ليس قطعي الدلالة على معنى واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار. ومثل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، فلفظ الميتة عام والنص يحتمل الدلالة على تحريم كل ميتة ويحتمل أن يخصص التحريم بما عدا ميتة البحر، فالنص الذي فيه نص مشترك أو لفظ عام أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة، لأنه يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره.