أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليَقْلبني (?) ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنها صفية بنت حيي) ، فقالا: سبحان الله، يا رسول الله!! قال: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً) ، أو قال: (شيئاً) (?) .
قال الخطابي: " في هذا الحديث من العلم استحباب أن يحذر الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون، ويخطر بالقلوب، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءَة من الريب ".
ويحكى في هذا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: " خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمره فيكفرا، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم شفقة منه عليهما لا على نفسه " (?) .
ومما أرشدنا الله إليه القول الحسن مع الآخرين حتى لا يدخل الشيطان بيننا وبين إخواننا، فيوقع العداوة بيننا والبغضاء، قال تعالى: (وقل لعبادي يقولوا الَّتي هي أحسن إنَّ الشَّيطان ينزغ بينهم) [الإسراء: 53] .
وهذا أمر تساهل فيه بعض الناس، فتراهم يقولون الكلام الموهم الذي يحتمل وجوهاً عدة بعضها سيِّء، وقد يرمي أحدهم أخاه بألفاظ يكرهها، ويناديه بألقاب يمقتها، فيكون ذلك مدخلاً للشيطان، فيفرق بينهما، ويحل العداء محل الوفاق والألفة.
النفس البشرية في معترك الصراع:
في ختام هذا الفصل أحب أن أثبت مبحثاً مهماً من كلام ابن القيم صوّر فيه - رحمه الله - حقيقة الصراع وطبيعته، يقول ابن القيم ما ملخصه: " اختار الله الإنسان من بين خلقه فكرمه واصطفاه، وجعله محلاً للإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والرجاء، وابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس، لا يفتر عنه " (?) .
ثم يقول ابن القيم ما نصه: " فهو (أي الشيطان) يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه، فتميل نفسه معه؛ لأنه يدخل عليها بما تحب، فيتفق هو ونفسه وهواه على العبد: ثلاثة مسلطون آمرون، فيبعثون الجوارح في قضاء وطرهم، والجوارح آلة منقادة، فلا يمكنها إلا الانبعاث، فهذا شأن هذه الثلاثة، وشأن الجوارح، فلا تزال الجوارح في طاعتهم كيف أمروا وأين يمموا.
هذا مقتضى حال العبد، فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم به أن أعانه بجند آخر، وأمدّه بمدد آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان، فإذا أمره الشيطان بأمر، أمره الملك بأمر ربّه، وبين له ما في طاعة العدو من الهلاك، فهذا يلم به مرة، وهذا مرة، والمنصور من نصره الله عز وجل، والمحفوظ من حفظه الله تعالى.
وجعل الله له مقابل نفسه الأمارة نفساً مطمئنة، إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء، نهته عنه النفس المطمئنة، وإذا نهته الأمارة عن الخير، أمرته به النفس المطمئنة، فهو يطيع هذه مرة، وهذه مرة، وهو الغالب عليه منهما، وربما انقهرت إحداهما بالكلية قهراً لا تقوم معه أبداً.
وجعل له مقابل الهوى الحامل له على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرة، وعقلاً يرده عن الذهاب مع الهوى، فكلما أراد أن يذهب مع الهوى، ناداه العقل والبصيرة والنور: الحذر الحذر، فإن المهالك والمتالف بين يديك، وأنت صيد الحرامية، وقطّاع الطريق، إن سرت خلف هذا الدليل.
فهو يطيع الناصح مرة، فيبين له رشده ونصحه، ويمشي خلف دليل الهوى مرة، فيقطع عليه الطريق، ويؤخذ ماله، وتسلب ثيابه، فيقول: ترى من أين أتيت؟
والعجب أنه يعلم من أين أُتي، ويعرف الطريق التي قطعت عليه، وأخذ فيها، ويأبى إلا سلوكها، لأنّ دليله تمكن منه، وتحكم فيه، وقوي عليه، ولو أضعفه بالمخالفة له، وزجره إذا دعاه، ومحاربته إذا أراد أخذه، لم يتمكن منه، ولكن هو مكنه من نفسه، وهو أعطاه يده.
فهو بمنزلة الرجل يضع يده في يد عدوه، فيباشره ثم يسومه سوء العذاب، فهو يستغيث فلا يغاث، فهكذا يستأسر للشيطان والهوى ولنفسه الأمارة، ثم يطلب الخلاص، فيعجز عنه.
فلما أن بُلي العبد بما بُلي به، أعين بالعساكر والعدد والحصون، وقيل: قاتل عدوك وجاهده، فهذه الجنود خذ منها ما شئت، وهذه الحصون تحصن بأي حصن شئت منها، ورابط إلى الموت، فالأمر قريب، ومدة المرابطة يسيرة جداً، فكأنك بالملك الأعظم وقد أرسل إليك رسله، فنقلوك إلى داره، واسترحت من هذا الجهاد، وفرق بينك وبين عدوك، وأطلقت في دار الكرامة تتقلب فيها كيف شئت، وسجن عدوك في أصعب الحبوس وأنت تراه.
فالسجن الذي كان يريد أن يودعك فيه قد أدخله وأغلقت عليه أبوابه، وأيس من الروح والفرج، وأنت فيما اشتهت نفسك، وقرّت عينك، جزاءً على صبرك في تلك المدة اليسيرة، ولزومك الثغر للرباط، وما كانت إلا ساعة ثمّ انقضت، وكأن الشدة لم تكن.
فإن ضعفت النفس عن ملاحظة قصر الوقت وسرعة انقضائه، فليتدبر قوله عز وجل: (كأنَّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاَّ ساعةً من نَّهار) [الأحقاف: 35] وقوله عز وجل: (كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاَّ عشيَّةً أو ضُحَاهَا) [النازعات: 46] ، وقوله عزّ وجلّ: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين - قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ فَاسْأَل العادين - قال إن لبثتم إلاَّ قليلاً لو أنَّكم كنتم تعلمون) [المؤمنون: 112-114] ، وقوله تعالى: (يوم ينفخ في الصُّور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً - يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاَّ عشراً - نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلاَّ يوماً) [طه: 102-104] .
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً، فلما كانت الشمس على رؤوس الجبال، وذلك عند الغروب قال: (إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه) . رواه أحمد في المسند، والترمذي في سننه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي من الدنيا بأسرها، ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئاً، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ هنيئاً موفوراً وأكمل منه، كما في بعض الآثار: " ابن آدم، بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعاً، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعاً ".
وقال بعض السلف: " ابن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا، أضعت نصيبك من الآخرة، وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة، فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظاماً ".
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته: " أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله - عزّ وجلّ - فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله - عزّ وجلّ - من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض.
وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف الله تعالى واتقى، وباع قليلاً بكثير، وفانياً بباقٍ، وشقاوة بسعادة، ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفه بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غادياً رائحاً إلى الله قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسّد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟ ".
والمقصود أن الله - عزّ وجلّ - قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود، والعدد، والأمداد، وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه، وبماذا يَفتَكّ نفسه إذا أسر.
وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه - والترمذي، من حديث الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ الله - سبحانه وتعالى - أمر يحي ابن زكريا صلى الله عليه وسلم بخمس كلماتٍ: أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كادَ أن يُبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله - تعالى - أمركَ بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم، وإما أن آمرَهُم، فقال يحي: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب، فجمع يحي الناس في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله - تبارك وتعالى - أمرني بخمس كلمات أن أَعمَلَهُنّ، وآمركُم أن تعملُوا بهن) .
وخامس هذه الخمسة التي أمرهم بها الذكر، (وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً، حتى أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ومما أمرهم به في الحديث الصلاة: (آمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت) . والالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان؛ أحدهما: التفات القلب عن الله عزّ وجلّ إلى غير الله تعالى. والثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه. ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه. وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاسٌ يَخْتلِسُهُ الشيطانُ من صلاة العبد) (?) .
وفي أثر: يقول الله تعالى: (إلى خير مني، إلى خير مني؟) . ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثلُ رجل قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يميناً وشمالاً، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضراً معه، فما ظنّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقّه أن ينصرف من بين يديه ممقوتاً مبعداً قد سقط من عينيه؟ .
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحيى من ربه تعالى أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه. وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل. فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب، لم يكن إقبالاً ولا تقريباً، فما الظن بالخالق عزّ وجل؟
وإذا أقبل على الخالق عزّ وجلّ، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام، وأقربه وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنّيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهوّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بنيه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة، ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عزّ وجلّ، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عزّ وجلّ بقلبه في صلاته؛ فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه.
فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه، فوجد نشاطاً وراحة وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجنٍ وضيقٍ حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم: (يا بلالُ أرِحنا بالصلاةِ) ، ولم يقل: أرحنا منها، وقال صلى الله عليه وسلم: (جُعِلت قُرة عيني في الصلاةِ) . فمن جعلت قرة عينه في الصلاة، كيف تقر عينه صلى الله عليه وسلم بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟
وقد روي أن العبد إذا قام يصلي، قال الله عز وجل: " ارفعوا الحجب، فإذا التفت، قال: أرخوها "، وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عزّ وجلّ إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره، أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض عليه أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة، وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت، لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله - تعالى - وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب، فإن فر إلى الله تعالى، وأحضر قلبه فر الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة.
كيف يجعل المصلي قلبه حاضراً في الصلاة؟
وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه عزّ وجلّ، إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعداً تمكن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟ !
والقلوب ثلاثة: قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال.
وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم مَنْ أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم مَنْ أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس لاحترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها لرجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة، ومستقرّ الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد والمحبة، والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يحرس ويحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة.
وقد مثّل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت:
بيت الملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره.
وبيت للعبد فيه كنوز العبد، وذخائره، وجواهره، وليس جواهر الملك وذخائره.
وبيت خال صفر لا شيء فيه، فجاء اللص يسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟
فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالاً؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يسرق، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟
وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس واليزَك (?) ما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك بنفسه، وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله من الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث، فهو الذي يشن عليه الغارات.
فيلتأمل اللبيب هذا المثال، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله.
فقلب خلا من الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق، فذلك بيت الشيطان، قد أحرزه لنفسه واستوطنه، واتخذه سكناً ومستقراً، فأي شيء يسرق منه، وفيه خزائنه وذخائره وشكوكه وخيالاته ووساوسه؟
وقلب قد امتلأ من جلال الله - عزّ وجلّ - وعظمته ومحبته ومراقبته والحياء منه، فأي شيطان يجترئ على هذا القلب؟ وإن أراد سرقة شيء منه، فماذا يسرق؟ وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب يحصل له على غرة من العبد وغفلة لا بد له منها، إذ هو بشر، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع.
وقلب فيه توحيد الله تعالى، ومعرفته، ومحبته، والإيمان به، والتصديق بوعده، وفيه شهوات النفس وأخلاقها، ودواعي الهوى والطبع.
وقلب بين هذين الداعيين؛ فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة والمحبة لله تعالى وإرادته وحده، ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطباع، فهذا القلب للشيطان فيه مطمع، وله منه منازلات ووقائع، ويعطي الله النصر من يشاء: (وما النَّصر إلاَّ من عند الله العزيز الحكيم) [آل عمران: 126] . وهذا لا يتمكن الشيطان منه إلا بما عنده من سلاحه، فيدخل إليه الشيطان، فيجد سلاحه عنده، فيأخذه ويقاتل به، فإن أسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات والأماني الكاذبة، وهي في القلب، فيدخل الشيطان فيجدها عتيدة، فيأخذها ويصول بها على القلب، فإن كان عند العبد عدة عتيدة، من الإيمان تقاوم تلك العدة وتزيد عليها، انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوه عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فإذا أذن العبد لعدوه، وفتح له باب بيته، وأدخله عليه، ومكنه من السلاح يقاتله به، فهو الملوم.
فنفْسك لُم ولا تَلُم المطايا ××× ومُت كمداً فليس لك اعتذارُ "
علاج الصرع
تحدثنا في ما مضى أن الشيطان قد يصيب الإنسان، وهو ما نسميه الصرع أو مس الجن، وسنحاول أن نبين أسباب الصرع وعلاجه:
أسباب الصرع:
بيّن ابن تيمية (?) : " أن الصرع للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس ... ، وقد يكون - وهو