الكفار يخافون جزاءَ الله لهم فى الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدى ربه فى الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل.
فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه فى الآخرة بالجزاءِ فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف بمقام العبد بين يدى ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد، ولهذا خوفنا تعالى فى قوله: {يَوْمَ يَقُومَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} [المطففين: 6] ، ولأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله وذلك فى يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه كل وقت. وأيضاً فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المأْلوف إطلاقه على الرب.
وأيضاً فإن المقام فى القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] ، وقوله تعالى: {كَمْ ترَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوع ٍوَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25- 26] ، وقوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ ندِياً} [مريم: 73] ، والمقصود أن قوله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَتَانِ} يتناول الصنفين من وجوه تقدم منها وجهان:
الثالث: قوله عقيب هذا الوعد: {فَبِأَى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] .
الرابع: أنه ذكر فى وصف نسائهم أنهن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56] وهذا والله أعلم معناه أنه لم يطمث نساءَ الإنس إنس قبلهم ولا نساءَ الجن جن قبلهم.
ومما يدل على أن ثوابهم الجنة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف: 30- 31] ، وأمثال هذه من العمومات.
وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون فى العموم، كما أن كافرهم يدخل فى الكافرين المستحقين للوعيد ودخول مؤمنهم فى آيات الوعد أولى من دخول كافرهم فى آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهى تغلب غضبه.
وأيضاً فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله أُدخل الجنة، وأيضاً فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه.
وأيضاً فقد ثبت أنهم إذا أجابوا داعى الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر له دخل الجنة ولا بد، وليس