آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبانِ} [الرحمن: 46] ، وذكر ما فى الجنتين إلى قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَان} [الرحمن: 56] ، وهذا يدل على أن ثواب محسنهم الجنة من وجوه:
أحدها: أن "منْ" صيغ العموم، فتتناول كل خائف.
الثانى: أنه رتب الجزاءَ المذكور على خوف مقامه، فدل على استحقاقه به. وقد اختلف فى إضافة المقام إلى الرب هل هى من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله؟ على قولين: أحدهما: أن المعنى ولمن خاف مقامه بين يدى ربه، فعلى هذا هو من إضافة المصدر إلى المفعول، والثانى: أن المعنى ولمن خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه، فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك القولان فى قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوِى} [النازعات: 40] ، ونظيره قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] ، فهذه ثلاثة مواضع.
وقد يقال: الراجح هو الأول، وأن المعنى خاف مقامه بين يدى ربه لوجوه، أحدها: أن طريقة القرآن فى التخويف أن يخوفهم بالله وباليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم كقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُون} [آل عمران: 175] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمنْ خَشِى رَبَّهُ} [البينة: 8] ، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبّهُم مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
[الملك: 12] ، ففى هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه وخشيته. وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه كقوله تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] ، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن.
الثانى: أن هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] ، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدى ربه فى الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت. وهذا هو الذى يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذى جاءَت به الرسل.
وأما مقام الله على عبده فى الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر وأكثر