ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك،
ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك فى كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغنى الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك.
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إِلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذى لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له- بشعوره بذكر أُستاذه له- غنى زائد على إِنعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد. وقد قال صلى الله عليه وسلم، فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "مَنْ ذَكرَنِى فى نفسه ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَمَنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُ"
فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأَول الذى ذكره به حتى جعله ذاكراً، وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائداً على إِنعام ربه عليه وعطاياه له، وقد ذكرنا فى كتاب- الكلم الطيب والعمل الصالح- من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريباً من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها، وهو كتاب عظيم النفع جداً والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم.