القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى بمعاد الأبدان ونحو ذلك، فما هو من أقوال سائر أهل الإسلام. وقال الله تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ} [الأحقاف: 18] فأخبر أن منهم من حق عليه القول أى وجب عليه العذاب وأنه خاسر ولا يكون ذلك إلا فى أهل التكليف المستوجبين العقاب بأعمالهم.
ثم قال بعد ذلك: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] أى فى الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئاً من أعمالهم، وهذا ظاهر جداً فى ثوابهم وعقابهم، وأن مسيئتهم كما يستحق العذاب بإساءَته فمحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه، ولكل درجات مما عملوا فدل ذلك لا محالة أنهم كانوا مأْمورين بالشرائع، متعبدين بها فى الدنيا، ولذلك استحقوا الدرجات بأعمالهم فى الآخرة فى الخير والشر، وقال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لهُمْ قرناء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ وحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ..} الآية [فصلت:25] ، ومعنى الآية: إن الله قيض للمشركين- أى سبب لهم- قرناءَ من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب، وقيل عكس هذا، وأن ما بين أيديهم هو ترغيبهم فى الدنيا وحرصهم عليها، وما خلفهم هو [التكذيب بالآخرة وقال الحسن: ما بين أيديهم هو] حب ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده.
وفى الآية قول رابع وهو أن التزيين كله راجع إلى أَعمالهم فزينوا لهم ما بين أيديهم: أعمالهم التى عملوها، وما خلفهم: الأعمال التى هم عازمون عليها ولما يعملوها بعد، وكأَن لفظ التزيين بهذا القول أليق. ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أى زينوا لهم التكذيب بالآخرة ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر فإنهم زينوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها.
ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتى لم يذكر البغوى غيره، وحكاه عن الزجاج، فقال الزجاج: سببنا لهم قرناءَ نظراءَ من الشياطين حتى أضلوهم فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروا على الآخرة، وما خلفهم من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث.