مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء [كما هو عادة أكثر النفوس تمسك الجيد لها وتخرج الرديء] للفقير، ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل [إما] عن اتفاق، إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه، فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما منَّ الله عليه، وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ موقع الحال، أى لا تقصدوه منفقين منه.

ثم قال [تعالى] : {وَلَسْتُمْ بِآخذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] ، أى لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه فى حقوقكم إلا بأن تتسامحوا فى أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه، ويقال للبائع: أغمض- أى لا تستقص- كأَنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأَن الرائى لكراهته له لا يملأُ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضاً، ومنه قول الشاعر:

لم يفتنا بالوتر قوم وللضي

م رجال يرضون بالإغماض

وفيه معنيان: أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له، والله أحق من يخير له [خيار] الأشياءِ وأنفسها؟ والثانى كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً؟ ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِى حَمِيدٌ} [البقرة: 267] فغناه وحمده يأْبى قبول الرديء، فإن قابل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأْباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغنى عنه الشريف القدر الكامل الأَوصاف فإنه لا يقبله.

ثم قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بِالْفَحَشَاءِ وَاللهِ يَعِدُكُمْ مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعانى، فإنها اشتملت على بيان الداعى إلى البخل والداعى إلى البذل والإنفاق، وبيان ما يدعوه إليه داعى البخل وما يدعو إليه داعى الإنفاق وبيان ما يدعو به داعى الأمرين.

فأخبر سبحانه أن الذى يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان، وأخبر أن دعوته هى بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم، وهذا هو الداعى الغالب على الخلق، فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد فى قلبه داعياً يقول له: متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015