بِبَيْعَكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] وهذا أيضاً من النمط المتقدم وشكر القوم هو عملهم بطاعة الله واستعانتهم بنعمه على محابه، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ: 13] .
وقال النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أَفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً". فسمى الأعمال شكراً وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها، فحقيقة الشكر هو الثناءُ على النعم ومحبته والعمل بطاعته، كما قال:
أفادتكم النعماءُ عندى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجبا
فاليد للطاعة، واللسان للثناءِ، والضمير للحب والتعظيم، وأما السرور به وإن كان من أجل المقامات فإن العبد إنما يسرُّ بمن هو أحب الأشياء إليه، وعلى قدر حبه له يكون سروره، وهذا السرور ثمرة الشكر لا أنه نفس الشكر، فكذلك الاستبشار والفرح بلقائه إنما هو ثمرة الشكر وموجبه، وهو كالرضا من التوكل وكالشوق من المحبة، وكالأُنس من الذكر، وكالخشية من العلم وكالطمأننة من اليقين، فإنها ثمرات لها وآثار وموجبات، فعلى قدر شكره بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية يكون سروره واستبشاره بلقائه، وأما قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] فهذا إنما قاله للشاكرين الذين يقاتلون فى سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَائِحُون الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَن المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112] ، فهؤلاء المستبشرون ببيعهم جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
فصل
قال: "ومحبتهم فناؤهم فى محبة الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال"؟ وقد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية، وبينا أن البقاءَ فى المحبة أفضل وأكمل من الفناءِ فيها من وجوه متعددة، وأن الفناءَ إنما هو لضعف المحب عما حمل، وأما الأقوياءُ فهم- مع شدة محبتهم- فى مقام البقاء والتمييز.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فالآية إنما سبقت فى الكلام على من يعبد غير الله ويشرك به، قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَن