وسقيت بماءِ الحياة الذى أَنزله الله عَزَّ وجَلَّ [من السماء] على قلوب أنبيائه وجعلها قراراً ومعيناً له ففاض منها على قلوب أَتباعهم فأَنبتت من كل زوج كريم، فحينئذ انقادت بزمام المحبة إِلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأَوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأْنينتها: {يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً} [الفجر: 27- 28] ، فلنرجع إِلى كلامه.
فقوله فى الدرجة الأُولى وهى غنى القلب: "إِنَّهُ سلامته من السبب" أَى من الفقر إِلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب [غناه] واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغنى، لأَنه فقير إِلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل. فمن كملت له السلامة من علة الأَسباب، ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة- أَى بالانقياد لحكمه- حصل الغنى [فحمى] للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، ان لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشئ المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يرده الله [عز وجل] لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل، فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من مخاصمة الرب سبحانه. فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذى وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ- يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه- لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولى تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله [عز وجل] ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا فى حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى استفتاح صلاة الليل: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ