لأَنها جانست القلب حينئذ ووافقته فى أَكثر أُموره، واتحد مرادهما غالباً فصارت له وزير صدق، بعد أَن كانت عدواً مبارزاً بالعداوة، فلا تسأَل عما أَحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أَهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أَوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغرى الظاهر والباطن فرض متعين مدة أَنفاس الحياة.
وتنقضى الحرب محموداً عواقبها ... للصابرين، وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاءِ، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار فى النظر والغض عن المحارم، وعلى الأُذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد فى معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش فى الطاعات أَين كانت بقوة وأَيد، وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ. فغدا العبد وراح يرفل فى هذه الخلع ويجر لها فى الناس أَذيالاً وأَردانا. فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإِذا استغنى سرى الغنى منه إِلى النفس. وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التى هى أَعظم خلعة تخلع عليه، فيستغنى حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأَحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات، وهذا أَمر تضيق عن شرحه عدة أَسفار بل حظ العبد منه علماً وإِرادة كما يدخل إِصبعه فى اليم، بل الأَمر أَعظم من ذلك. والله عز وجل: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذى هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التى ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها فى الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، وصارت برودتها فى شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت أيضاً عنها اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها، فإِنها إِذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد، فإِذا صارت برودتها حرارة، وبوبستها رطوبة