..
...
...
امتلأت قلوبهم محبة لو سئل عن حدها وأحكامها وحقيقتها لم يطق أن يعبر عنها، ولا يتهيأ له أن يصفها ويصف أحكامها، وأكثر المتكلمين فيها إنما تكلموا فيها بلسان العلم لا بلسان الحال.
وهذا والله أعلم هو معنى قول بعض المشايخ: أعظم الناس حجاباً عن الله أكثرهم إليه إشارة، فإنه إنما حظه منه الإشارة إليه لا [عكوف] القلب عليه، كالفقير الذى دأْبه وصف الأغنياء وأموالهم، ووصف الدنيا وممالكها، وهو خلو من ذلك.
ولا ريب أن وجود الحب فى القلب وترك الكلام [منه] علماً، [غير من كثرة الكلام فى هذه المسألة وخلو القلب منها] ، وخير من الرجلين من امتلأ قلبه منها حالاً وذوقاً، وفاضت على لسانه إرشاداً وتعليماً ونصيحة للأُمة. فهذا حال الكملة من الناس. والله المسئول من فضله وكرمه.
قوله: "المحبة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله" هذا حق، فإن دلالة الحال على المحبة أعظم من دلالة القال عليها، بل الدلالة عليها فى الحقيقة هو شاهد الحال لا صريح المقال. ففرق بين من يقول لك بلسانه: إنى أحبك، ولا شاهد عليه من حاله، وبين من هو ساكت لا يتكلم وأنت ترى شواهد أحواله كلها ناطقة بحبه لك.
قال جعفر: قال الجنيد: دفع السرى إليه رقعة، وقال: هذه خير لك من سبعمائة قصة وكذا [وكذا] فإذا فيها:
ولما ادعيت الحب قالت كذبتنى ... فما لى أَرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتبخل حتى [لا] يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكى بها وتناجيا
وبالجملة فشاهد [المحبه] الذى لا يكذب هو شاهد الحال، وأما شاهد المقال فصادق وكاذب.
قوله: "ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع اقتداح الأسرار من القلوب" يعنى أن حقيقة المحبة وسرها لا يفهمه من المحب إلا محبوبه. وذلك لشدة الاتصال الذى بينه وبين محبوبه فى الباطن، فروحه أَقرب شيء إليه، [وأما] الغير وإن علم أنه محب بظهور أثر المحبة عليه وقيام شاهدها لكن لا يدرك تلك اللطيفة والحقيقة التى يدركها المحبوب من محبه، لموضع اتصال سره، وقرب ما بين الروحين، ولا سيما إذا