للرب [سبحانه] من عبده كان ذلك تعذيباً له، ولم يكن الرب ظالماً له فى هذا الحرمان.
ولو كان عاجزاً عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقاً يستحقه عليه فيكون ظالماً بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله، بل هى خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معوضة عليه. والله أعلم.
الجواب الثالث عن السؤال الأول: إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرءِ وقلبه وأنه تعالى [سبحانه] كل يوم [هو فى] شأْن، يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد وأنه يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ، ويرفع من يشاءُ ويخفض من يشاءُ، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] ، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم.
وكان من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك، ومثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك"، وفى الترمذى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: "أعوذ بعزتك أن تضلنى أنت الحى الذى لا تموت".
وكان من دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطكَ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ".
فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكأن فى استعاذته منه جمعاً لما فصله فى الجملتين قبله.
فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة وهى كمال التوحيد وأن الذى يستعيذ به [العائد] ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره، فهو وحده المنفرد بالحكم. فإذا أراد بعبده سوءاً لم يعذه منه إلا هو. فهو الذى يريد به ما يسوؤه، وهو الذى يريد دفعه عنه. فصار سبحانه مستعاذاً به منه باعتبار الإرادتين: {وَإِنْ يمسسك اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [الأنعام: 17] ، فهو الذى يمس بالضر، وهو الذى يكشفه، لا إله إلا هو فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأُ منه إليه، كما أَن الاستعاذة منه، فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه. فهو الذى يحركه ويقلبه، ويصرفه كيف يشاءُ.
الجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذى يجعل الإيمان والهدى فى القلب ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة