والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، فإِن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أَغناه حينئذ من فقير، وما أَعزه من ذليل، وما أَقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنى بلا مال القوى بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفى بلا عتاد. قد قرت عينه بالله [فقرت به كل عين، واستغنى بالله] فافتقر إِليه الأَغنياءُ والملوك. ولا يتم له ذلك إِلا بالبراءَة من فرث الجبر ودمه فإِنه إِن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإِسلام من عنقه وشهد أَفعاله كلها طاعات للحكم القدرى الكونى وأَنشد:
أَصبحت منفعلاً لما يختاره ... منى، ففعلى كله طاعات
وإِذ قيل له: اتق الله ولا تعصه، يقول: إِن كنت عاصياً لأَمره، فأَنا مطيع لحكمه وإِرادته َ، فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إِبليس بل وظيفة الفقير فى هذا [الموضع] ، وفى هذه الضرورة مشاهدة الأَمر والشرع، ورؤية قيامه بالأَفعال وصدورها منه كسباً واختياراً، وتعلق الأَمر والنهى بها طلباً وتركاً، وترتب الذم والمدح عليها شرعاً وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلاً وعاجلاً، فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إِلى [شهود] الاضطرار فى حركاته وسكناته، والفاقة التامة إِلى مقلب القلوب ومن بيده أَزمة الاختيار ومن إِذَا شاءَ شيئاً وجب وجوده، وإِذا لم يشأْ امتنع وجوده، وأَنه لا هادى لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذى يحرك [القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت] تسخيره مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أَن تتحرك بدون [مشيئته، وأن] مشيئته نافذة فيها كما هى نافذة فى حركات الأفلاك والمياه والأَشجار وأَنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه وهو خالق السبب المقتضى وخالق السبب خالق للمسبب، فخالق الإِرادة الحازمة التى هى سبب الحركة والفعل الاختيارى خالق لهما، وحدوث الإِرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا إِرادة منه محال، وإِن كان [بإرادته] فإِرادته للإِرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل، فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التى هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إِلى مالك الإِرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاءَ، فما شاءَ أَن يزيغه منها أَزاغه، وما شاءَ أَن يقيمه منها أَقامه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ