إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أَدناس مطالعات المقامات، فالمقام ما كان راسخاً فيه، والحال ما كان عارضاً لا يدوم. فمطالعات المقامات [وشرفه] بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أَن ينسب إِليه ويوصف به مثل أَن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض، فكونه يرى نفسه مستحقاً بأَن تضاف المقامات إِليه وبأَن يوصف بها- على وجه الاستحقاق لها- خروج عن الفقر إِلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية فالرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأَدناس، فيصير مصفَّى بنور الله [عز وجل] عن رذائل هذه الأَرجاس.
[الدرجة الثالثة من درجات الفقر]
قوله: "والدرجة الثالثة صحة الاضطرار، والوقوع فى يد التقطع الوحدانى، والاحتباس فى بدء قيد التجريد، وهذا فقر الصوفية". وهذه الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أَرباب السلوك، وهى الغاية التى شمروا إِليها وحاموا حولها، فإِن الفقر الأَول فقر عن الأَعراض الدنيوية، والفقر الثانى فقر عن رؤية المقامات والأَقوال، وهذا الفقر الثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود الحارث فى قبضة الحق عز وجل الهباء المنثور فى الهواءِ، يتقلب بتقليبه إِياه، ويسير فى شاهد العبد كما هو فى الخارج، فتمحو رؤية التوحيد عن العبد شواهد استبداده واستقلاله بأَمر من الأُمور، ولو فى النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة، إِلا بإِرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته، فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صولجانات القضاءِ والقدر، تقلبها كيف شاءَت بصحة شهادة قيومية من له الخلق والأَمر وتفرده بذلك دون ما سواه. وهذا الأَمر لا يدرك بمجرد العلم، ولا يعرفه إِلا من تحقق به أَولاح له منه بارق، وربما ذهل صاحب هذا المشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إِلى الحى القيوم، وشهد فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إِليه من جهة كونه رباً ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأَعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى.
وإِنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلَهية، ومعرفة حقيقة النفس