وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وسدَّ إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأَحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة و [الصغار] على من خالف أَمره. فهدى به من الضلالة وعلَّم به من الجهالة. وكثَّر به بعد القلَّة، وَأعزَّ به بعد الذلَّة وأَغنى به بعد العَيْلَة، وبصَّر به من العمى، وأَرشد به من الغى وفتح برسالته أَعيناً [عمياً] وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، فَبَلَّغ الرسالة وأَدَّى الأَمانة ونصح الأُمة وجاهد فى الله حق جهاده وعَبَدَ الله حتى أَتاه اليقين فلم يدع خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إِلا حذر منه ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه. ففتح القلوب بالإِيمان والقرآن، وجاهد أَعداءَ الله باليد والقلب واللسان. فدعا إلى الله على بصيرة، وسار فى الأُمة- بالعدل والإِحسان وخلقه العظيم- أَحسن سيرة، إلى أَن أَشرقت برسالته الأَرض بعد ظلماتها، وتأَلفت به القلوب بعد شتاتها. وسارت دعوته سير الشمس فى الأَقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار. واستجابت لدعوته الحق القلوب طوعاً وإذعاناً، وامتلأَت بعد خوفها وكفرها أَمناً وإِيماناً، فجزاه الله عن أُمته أَفضل الجزاءِ، وصلى عليه صلاة تملأُ أَقطار الأَرض والسماء، وسلم تسليماً كثيراً.
أَما بعد..
فإِن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده فى قلوب من اختارهم لربوبيته، واختصهم بنعمته، وفضلهم على سائر خليقته، فهى {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} [إبراهيم: 24-25] ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الإِيمان أَصلها ثابت فى القلب وفروعها الكلم الطيب والعمل الصالح فى السماءِ، فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإِذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقرُّ به عيون صاحب الأَصل وعيون حفظته وعيون أَهله وأَصحابه ومن قرب منه، فإِن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين وأَنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل حزين وأَمن به كل خائف وشهد به كل غائب، وذكرت رؤيته بالله، فإِذا رؤى ذكر الله فاطمأَن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءَه كله لله، فإِن سمع سمع بالله وإِن أَبْصر أَبصر بالله وإن بطش بطش بالله وإِن مشى مشى بالله، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه