وقوله: "الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات"، فهذه الدرجة أَرفع من الأولى وأَعلى، والأُولى كالوسيلة إِليها، لأَن فى الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أَن يتأَله غير مولاه الحق، وأَن يضيع أَنفاسه فى غير مرضاته، وأَن يفرق همومه فى غير محابه، وأَن يؤثر عليه فى حال من الأَحوال. فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص [الوداد والمحبة] ، فيصبح ويمسى ولا هم له غير ربه، قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإِرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه، كما قيل:
لقدكان يسبى القلب فى كل ليلة ... ثمانون بل تسعون نفساً وأَرجح
يهيم بهذا ثم يأْلف غيره ... ويسلوهم من فوره حين يصبح
وقد كان قلبى ضائعاً قبل حبكم ... فكان بحب الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبى هواك أَجابه ... فلست أَراه عن خبائك يبرح
حرمت الأَمانى منك إِن كنت كاذباً ... وإِن كنت فى الدنيا بغيرك أَفرح
وإِن كان شيء فى الوجود سواكم ... يقرَّ به القلب الجريح ويفرح
إِذا لعبت أَيدى الهوى بمحبكم ... فليس له عن بابكم متزحزح
فإِن أَدركته غربة عن دياركم ... فحبكم بين الحشا ليس يبرح