ثم بعد النصوص يأتي الاستقراء، ومع أن الاستقراء نفسه يعتمد على النصوص بمنطوقها ومفهومها ومعقولها، فإن فائدته أنه يوفِّر لنا النظرة الكلية المتكاملة لمقاصد الشارع، فهو الذي يكشف لنا عن الناظم الذي ينظم الجزئيات المتناثرة، فيكشف عن الكليات الشرعية والمقاصد العامة، فتُسْتَخْلَصُ الكليات من خلال تتبع الجزئيات، وتُفْهم الجزئيات بعد ذلك في ضوء تلك الكليات، فيعلم ما ينضوي منها تحت تلك الكليات، وما هو مستثنى منها استثناءً يُعتَدُّ به، وما هو معارض لها يلغى في مقابلتها طبقاً لقواعد التعارض والترجيح.
لقد أحدث الإطلاع على الدراسات اللغوية والألسنية عند الغربيين في القرن الأخير انبهاراً لدى بعض الباحثين من أبناء المسلمين الذين غلبت عليهم الثقافة الغربية، فظنوا ذلك اكتشافاً غير مسبوق، وراحوا يدعون إلى "إعادة قراءة" النصوص الشرعية بناء عليها، (?) وصارت نظرية السياق -عندهم- كشفاً جديداً حُرِمَت منه الدراسات الشرعية، وغاب عنهم أن ما يتحدثون عنه هو جزء ممّا بُنِيت عليه النظريات الأصولية التي تمثّل المنهج الإِسلامي في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها واستنباط الأحكام منها. وبغضِّ النظر عمّا قدّمه علماء اللغة -كالجرجاني-في ذلك فإن الإشارة هنا مقصورة على علم أصول الفقه لكونه يمثّل منهج تفسير النصوص الشرعية، ولبيان أن مراعاة السياق بأُطُرِهِ المختلفة لم يكن أمراً غائباً عن الأصوليين في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها، وأن تلك النصوص قد قُرِئت وفق منهج دقيق لم
يحن ينقصه ما ظنه هؤلاء كشفاً جديداً في عالم الدراسات اللغوية والألسنية.
لقد قسّم الأصوليون طرق دلالة اللفظ على المعنى إلى ثلاثة أقسام: النظم، والمفهوم، والمعقوله، فاللفظ إما أن يدلّ على معناه بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله. (?) وبنوا مباحث دلالات الألفاظ -وهي صلب علم أصول الفقه- على نظرية السياق والقرائن. فمباحث التخصيص، والتقييد، والحقيقة