المسكوت عنه الذي يُعدّ من باب مرتبة العفو إلى ثلاثة أنواع:
أ - ترك الإستفصال مع وجود مظنتة، أي إصدار الشارع حكماً عامّاً دون تفريق بين جزئيات المحكوم عليه مع علمه بها. ومثال ذلك إحلال طعام أهل الكتاب في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، فإن عموم كلمة الطعام تشمل ضمن ما تشمل قرابينهم التي يذبحون لأعيادهم وكنائسهم. فهل ما في تلك الذبائح من زيادة تنافي مبادئ الإِسلام يجعلها مستثناة من الإحلال؟ أم أنّها تحون عفواً فتدخل ضمن ما أُحِلّ بناءً على أن الشارع تعالى كان عالماً بها ولم يفصل لها حكماً خاصّاً بها؟ وقد رُوِي عن مكحول أنه لما سئل عنها قال: "كُلْهُ، قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم". (?)
ب - ما حرّمه الإِسلام من عادات الجاهلية بالتدرج، فإن ما ارتُكِبَ منه أثناء التدرج في التحريم وقبل صدور الحكم النهائي يُعدّ معفوّاً عنه، وذلك مثل ما شُرِب من الخمر وأُكِل من الربا قبل صدور التحريم المطلق، ويشهد لذلك قوله تعالى في الخمر: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]. وقوله في الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)} [البقرة: 275]، وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة: 279] (?)
ج - ما عمل به الناس من عبادات ومعاملات موروثة عن ملّة إبراهيم - عليه السلام -، أو مما جرت به أعرافهم قبل أن يأتي الشرع بإقرار ما أقر منه ونسخ ما نسخ، وتقويم ما قوَّم، فكل ما عمل به على ذلك فهو عفو (?)
وبناءً على ما تقدّم يمكن أن يفهم أن الشاطبي يرى أن المسكوت عنه الذي يدخل ضمن دائرة العفو -بعد استقرار الشريعة وتمامها- ينحصر في نوع واحد، هو ترك الإستفصال مع وجود مظنته.