الإمام الشاطبي، الذي خصص الجزء الثاني من كتابه الموافقات لموضوع المقاصد الشرعية دراسةً وتحليلاً. وبعد دراسة طويلة ومتشعّبة للمقاصد تنظيرًا وتدليلًا، وصل أخيرًا إلى الحديث عن المسالك التي يمكن من خلالها التعرّف على تلك المقاصد، فقال: "فإنّ للقائل أنْ يقول: إنّ ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبنيّ على المعرفة بمقصود الشارع؛ فبماذا يُعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟ " (?)

استهلّ الشاطبي حديثه عن هذا الموضوع بمسألة في غاية الحساسية، وهي علاقة مقاصد الشارع بنصوصه، حيث أشار إلى وجود ثلاثة اتجاهات في ذلك: الإتجاه الظاهري الذي يَقْصِر مسالك الكشف عن مقاصد الشارع على ما صرّحت به ظواهر النصوص دون أن يُعطي كبيرَ اهتمام لعلل الأحكام، والمقامات التي صدرت فيها، والظروف والملابسات التي صاحبتها، وما يمكن أن يكون لذلك من تأثير في فهمها وتنزيلها على ما يَجِدُّ بعد ذلك من وقائع. والإتجاه الباطني الذي يُهْدر ظواهر النصوص، ويسعى إلى التخلص منها بدعوى أنها ليست مقصودة لذاتها، ويجعل عمدته في اكتشاف مقاصد الشارع معاني باطنية يزعمها أصحاب هذا الإتجاه من غير أن تسندها أدلّة يُعتَدُّ بها، وإنما هي مجرد دعاوى ليست لها على أضدادها مزيّة. ويبرز هذا الإتجاه عند الفِرَق الباطنية القديمة ومن يُعدُّ امتدادًا لهم من بعض العلمانيين من المعاصرين الذين لم يجرؤوا على ردَّ النصوص الشرعية صراحة، فراموا التخلص منها بدعوى أنها لم يُقْصد منها ظواهرها، وإنما قُصِد بها تحقيق المصلحة التي تتغير بتغير الأزمان والظروف. والاتجاه الثالث، وهو منهج التوسط، وهو اعتبار ظواهر النصوص ومعانيها في مسلك توافقي لا يسمح بإهدار أحد الجانبين على حساب الآخر ولا بطغيان أحدهما على الآخر؛ فيعطي للنص حقّه وأبعاده التي يكون قد قصدها الشارع، وذلك من خلال عدم إهمال الأدوات المُعِينة على حسن فهم النص وتطبيقه مِنْ عللٍ، وقرائنَ، ومقاماتٍ، وعقلٍ، وجمعِ النصوص الجزئيّة بعضها إلى بعض لتتضح الصورة الكلية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015