واشتد حصار الروم لطرسوس، ولم يتحرك أحد من المسلمين لإنقاذها، وكانت تعاني من قلة الأقوات، ومن الغلاء، وانتشار الوباء، فأسقط في أيدي أهلها، وطلبوا من نقفور الأمان، وعرضوا رفع الحصار، مقابل ثلاثمائة ألف دينار، وإطلاق ما عندهم من الأسرى. وأبى نقفور، وخّيرهم بين الخروج من المدينة بالأمان، أو البقاء فيها مع الدخول في طاعة الروم، وتخريب أسوار المدينة1. واستمرت المفاوضات إلى أن تم الاتفاق على تسليم المدينة للروم بالأمان لأهلها، على أن من أراد أن يخرج من المدينة فله أن يحمل من ماله، ورحله، ما يطيق حمله. وأن من أراد البقاء على الذمة، أو الجزية، أو النصرانية، فله ذلك أيضاً. واشترط نقفور تخريب الجامع والمساجد.
ودخل نقفور وعامة عسكره طرسوس في منتصف شهر شعبان عام 354 هـ، فأخذ كل واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها، ثم يتوكل ببابها، ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ، فإن رآه قد تجاوز منعه، حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني، فاحتوى على ما فيها. ونصب نقفور علمين، علم يشير إلى الإسلام، وعلم يشير إلى النصرانية، وطلب من أهل المدينة أن من أراد الخروج إلى بلاد الإسلام، فليقف تحت العلم الأول، ومن اختار البقاء تحت حكم الروم فليقف تحت الثاني. وقد قدر عدد الذين خرجوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي. وحدث أثناء الخروج من المواقف المحزنة الكثير. فقد تقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهن، وقالت: أنا الآن حرّة، لا حاجة لي في صحبتك، فمنهن من رمت بولدها على أبيه، ومنهن من منعت الأب من ولده، فنشأ نصرانيا. فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم، فيودع ولده، ويبكي، ويصرخ، وينصرف على أقبح صورة2.
وقام نقفور بإحراق المصاحف، وتخريب المساجد، وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله، مما كان جُمع من أيام بني أمية إلى هذه الغاية. وصعد نقفور منبر المدينة وخاطب من حوله: "أين أنا؟ " فقالوا: "على منبر طرسوس". فقال: "لا، ولكنني على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من تلك"3. وأمر بنقل أبواب مدينة طرسوس إلى القسطنطينية، كما أمر بنبش قبر المأمون، فأخذ سلاحه، وأعاد القبر كما كان. وجعل المسجد الجامع اصطبلا لدوابه، ثم أحرق البلد.