هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأَبَيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد ما أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق. وجلست، فما راعنا إلاّ رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيرة من النحاس ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون، وخفت أن يؤذينا فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي، وقال: هو الجابي.
قلت: جابي ماذا، جَبَّ الله (...)!
قال: اسكت، إنه جابي الترام، أعني هذه السيارة.
ثم مدّ يده إليه بقرشين اثنين، أعطاه بهما فُتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان! وجلست لا أنبس، فلم تكن إلاّ هُنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قردية، إلا أنه أجمل ثياباً وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها! فثارت ثائرتي وقلت: هذا والله الذل، فقبَّحَ الله مَن يقيم على الذل والخَسيفة. وقمت إليه فلببّته وقلت له: يا ابن الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا ودفعنا فيه قروشنا فتمزّقه، لأمزّقنّ عمرك.
وحسبت صاحبي سيدركه من الغضب لكرامته والدفاع عن حقه مثل ما أدركني، فإذا هو يضحك، ويضحك الناس ويعجبون