وكذلك أرى أنا، وهل أنا إلا من غُزَيّة؟
وإلا فمَن يروي لي قصة هذا القبر التائه، الذي نأى عن موطنه وفارق إخوانه، وطوّفَ حتى استقرّ عند قدم صخرة هائلة من صخور رأس بيروت، يلطمه الموج صباح مساء فيستغيث استغاثة غريق عاين الموت، ولا من مغيث؟
قبر منفرد ضائع بين الصخور، ليس ما يدلّ عليه إلا حجر منحوت نحتاً غير متقَن، عليه كتابة قد براها الماء فلم يبقَ منها إلا أنقاض هذه الأبيات:
الشمسُ تطلع تارةً وتغيبُ ... والليلُ يجمع شملَ ... ...
وأنا محبٌّ لم أجِدْ إلا الشّقا ... أُحيي الليالي ... ... ...
أفيجمعُ القبرُ الأحبّةَ إنْ نَمُتْ ... ويكون ... ... ... ...
فمَن -يا أهل بيروت- يعرف تلك القصة التي لم يبقَ منها إلا هذه الخاتمة الأليمة: قبرٌ تائه عليه شِعْر، إن لم يحفل به علماء اللسان كان حسبه أن يحفل به علماء القلوب؟
هل في هذا القبر عاشق من لبنان (يوم لم يكن قد فسد لبنان ولا عاثت فيه يد الحضارة) عرف فتاته في طفولتها الحلوة المبرَّأة، تتهادى بين البيت السعيد والحقل الخصيب، والمرعى الجميل والكرم البهي، فكانا يلحقان الأفراخ (الصيصان) وهُنّ بنات يوم واحد، قد خرجن من البيض كُراتٍ ذهبيةً من الريش الأصفر الناعم، تطير لخفّتها مع النسيم وتحل لحلاوتها في الفؤاد، فإذا رأتهما الدجاجة الأم فأقبلت عليهما نافشة ريشها مستنسرة خافا، فارتدّا إلى الجدي يلاعبانه والجحش يركبانه. وكان عالمهما