تركت الناس يزدحمون على سيارة القصاع، وهي تجري في هذا الشارع الجديد الذي يمشي من المرجة من أمام الفندق الكبير إلى مدخل شارع بغداد، ورحت أعيش وحدي في دنيا تلك الأيام، حين لم يكن هذا الشارع ولا الفندق الكبير ولا شارع بغداد. حين كان إلى جنب الجامع بناء قديم يطل على المرجة، هو العدلية، وإلى جانبه بناء أقدم منه هو البريد، وكان في موضع الفندق بيوت صغار متصلة كبيوت البحصة.
كانت المرجة آخرَ البلد، كما كان آخرها من هناك القصّاع، وكانت دمشق كلها بيوتاً عربية متلاصقة، لم تكن فيها إلا عمارة واحدة هي عمارة العابد، ولم يكن فيها إلا شارع واحد هو شارع جمال باشا الذي افتتح سنة 1916، وأنا أتذكر فتحه. وكان طريق الصالحية يمشي بين البساتين، ما فيه إلا مجموعات قليلة من البيوت عند بوابة الصالحية وعند الشهداء وعَرْنوس. أما شارع بغداد، وأحياء الروضة والحبوبي والمزرعة والميدان الجديدة، فلم يكن لشيء من ذلك وجود. وكانت بوابة الصالحية جادة ضيقة، على يمينها (حيث يبدأ اليوم شارع بغداد) دك وراءه بستان يقال له بستان الكركة، وعن شمالها «الخسته خانة» (المستشفى العسكري)، وكان في موقع التجهيز الأولى تلال تُلقى عليها الأوساخ.
لم يكن في دمشق سنة 1918 شوارع ولا عمارات، ولا كان فيها هذا العدد من المدارس والمستشفيات، وما كان فيها إلا خمس سيارات فورد صغيرات، وما كان فيها هذا الجمهور من المهندسين والمحامين والأطباء، ولم تكن تضاء بيوتها بالكهرباء،