الناس بالغنى والجاه لم يسعده إلا لقاؤها، وإن حرص العقلاء على رضا الله لم يحرص إلا على رضاها، وإن افتخروا بالصحة والقوة فخر بالمرض والضعف والهزال! يرى القصرَ إن خلا منها سجناً والسجنَ إن كان معها قصراً، والقَفْرَ إن كانت فيه روضة والروضةَ إن فارقتها قفراً، واليومَ إن واصلته لحظة واللحظةَ إن هجرته دهراً، يرى الشمسَ من هجرها سوداء مظلمة، والليلَ البهيم من وصالها شمساً مشرقة.
تؤرقه ويرجو لها طيب المنام، وتسقمه ويسأل لها البعد عن الأسقام. يعتذر من ذنبها وهي المذنبة، ويبكي من حبها وهو القتيل، فهي شفاؤه وهي داؤه، وهي نعيمه وهي شقاؤه، وهي جنته وهي ناره. يطلب أن تلتقي الروحان ويتوحد الاثنان، وهذا ما لا يكون أبداً، لذلك يترك حاضره ويحنّ إلى الماضي، يعود بالذكرى إليه يفتش في زواياه عن هذه الأمنية، أو يتطلع إلى المستقبل يستشف بالخيال ما فيه، فلا يرجع له ماض، ولا ينجلي له آتٍ، ولا يثبت له حاضر!
وهذا أبداً دأب العاشقين؛ إنهم يئسوا من أن يساعدهم الناس على بلواهم، فتركوا دنيا الناس وعاشوا وحدهم في دنياهم. هاموا على وجوههم يبحثون عن قِطَع قلوبهم التي خلّفوها في مدارج الهوى وملاعب الصبا وتحت الأطلال، ويسائلون الحُفَر والحجارة ويناجون الأحلام والأوهام. يقول العاذلون: انْسَ ليلاك، ففي الأرض لَيْلَيَات كُثُر، واستبدل بها. وما يدري العاذلون ماذا يلاقي، لا، ولا نظروا إلى ليلى بعينيه ولا شعروا بها بقلبه ... فيا رحمتا للعاشقين مما تقول العواذل!