المقعد إلى جنبي شيخ مسنّ أحسبه قد دخل في الثمانين، وكان معه لبن سائل في صحن ضحل لا غطاء له ولا قعر، فكلما اهتز الترام أو تحرك الناس طار رشاشه على ثوبي الذي كنت أتجمّل به أيام الحرب، ولا أجد -وأنا موظف- السبيلَ إلى غيره، فكنت أضمّ ثيابي إليّ وأحاول أن أبتعد عنه ليدرك أذاه لي فيدفعه عني، فلا يدرك ولا يبالي، فقلت له: يا عم، قد آذيتنا ولوثتنا بالحليب. فما كان منه إلا أن صرّخ تصريخاً جمع عليّ أهل الترام، وقال: اتّقِ الله، ما هذا الكفر؟ ما هذا الجحود؟ ألا تعرف قدر النعم؟ إنه حليب طاهر. هل هو نجاسة؟ حرام عليك!
فتركته ودخلت بين الناس، ووقفت مع الواقفين، وقد كادت تتلامس الوجوه وتتلاقى الأنفاس. وكدت أختنق، وإذا بشاب على آخر طراز في فمه سيكار أسود ضخم كأنه ذَنَب العَضْرَفُوط (?)، يخرج منه دخان كأن رائحته ضراط الخنافس، فوقف أمامي حتى أوشك أن يحرق بناره أنفي، فقلت له: انتبه يا أخي. فصاح: وأين الحرية الشخصية؟ وبأي حق تكلمني؟ ... وأمثال هذا الهذيان.
فرأيت في ذلك عيباً آخر من عيوبنا. إننا نأخذ المسائل مقلوبة ونفهمها على أضدادها، فلا الشيخ فقه الدين وعرف الحلال من الحرام قبل أن يعظ ويفتي، ولا الشاب عرف المدنية وأدرك أحوال أهلها قبل أن يهذي ويتفلسف. الدينُ يحرِّم إيذاء الناس والمدنيةُ تمنع التدخين في الترام، ولكنا نأخذ ما لا نعرف