الترام، فالترام -يا سادة- معرض الناس ومرآة الأمة، وهو مَسْلاة لمن نشد تسلية ومدرسة لمن أراد استفادة، وهو «سينما» أبطالها أناس صادقون، لا يمثلون رواية وضعها كاتب، ولكن يعرضون فِطَرهم التي فَطَرهم الله عليها وأخلاقهم وطباعهم.
وكل صغيرة في الترام تمثل كبيرة في الحياة: هذا الباب المغلق مثلاً عنوان فصل كبير من فصول حياتنا ونقص بَيِّن في تربيتنا، إذ ربما كان دفاع الباب أقلَّ من قوة اثنين منا، ولكنا أتيناه متفرقين كما نفعل في كل أمر نرومه وإصلاح نطلبه، نعمد له فُرادى ونقصده أشتاتاً، فلا نصل إلى مقصد ولا نبلغ غاية؛ قد استقرت الفردية في سلائقنا، فترى الواحد منا يعمل ما لا تعمله الجماعة، فإذا اجتمعنا أضعف بعضُنا بعضاً أو استبدّ بعضنا ببعض! وإذا نحن أردنا التخلص من هذا قفزنا من أول الخط إلى آخره، فجاوزنا حد الاعتدال وتعدَّينا نطاق الممكن، وأردنا أن نبني الدار قبل أن نُعِدَّ الحجارة ونُصلح الأمة قبل أن نصلح الأفراد، كأن الأمة مخلوق مستقل له طول وعرض وعمق وارتفاع! لا يا سادة، ما الأمة إلا أنا وأنتم وهم وهنّ، فإذا لم يُصلح كلٌّ منا نفسه لم يكن للأمة صلاح.
هذا عيب كبير فينا دل عليه الحادث الصغير، وما أكثرَ ما تدل الصغائر!
* * *
ركبت الترام مرة، وكان مزدحماً يغصُّ براكبيه، فلا تبصر لون أرضه ولا تعرف من الازدحام طوله من عرضه، وكان على