فمضيت في القصيدة حتى بلغت قوله: "يا معهداً أفنى القرونَ جدارُه" ... فترنّح طرباً، وأعجبته صورة هذا الجدار وهو قائم في وجه القرون، ترتدّ عنه كليلةً عاجزة ثم تفنى وتضيع، كما ترتد الأمواج عن الصخرة ثم تذهب وتضمحلّ، والصخرة راسية ما ذهبت ولا اضمحلّت.
واستزادني من شعره فأنشدته قولَه وهو لم يبلغ العشرين:
صوني جمالَك عنّا إننا بشرٌ ... من التراب، وهذا الحُسْنُ روحاني
أو فابتغي فَلَكاً تأوينه مَلَكاً ... لم يتخذ شَرَكاً للعالَم الفاني
فهزَّه الطرب هزاً وقال: إن الشعراء يقولون، ولكنْ مثلَ هذا ما يقولون. إنهم وصفوا حسن المرأة وجمالها، ولكن لم يستطيعوا أن يرفعوها فوق الناس وأن يجعلوها من طينة غير طينتهم، وأن يبرِّئوها من مادة التراب حتى تخلص لصفاء الروح، ثم يجعلوها مَلَكاً يسكن السماء! إني لأعجب لكم؛ عندكم هذا الشاعر ولا تفاخرون به شعراء الأرض؟
* * *
ثم قرأت عليه من شعر حافظ، فأعجبه ولكنه قال: هذا من عيار وذاك من عيار، ولست أسوّي بينهما. إن الأول عبقري إمام، وهذا مقلد ذو بصيرة وسبّاق ذو وثبات.
قلت: إن الناس كانوا يسوّون بينهما أو يقاربون يوم كانا