المستقبل في بناء الأسرة وإنشاء الدار وإنسال الولد، فلما صارت لي الزوجة والدار والأولاد والحَفَدة صار المستقبل في الترقيات والعلاوات والمال المدَّخَر، وفي الشهرة والمجد والكتب والمقالات، فلما تمَّ لي -بفضل الله- ذلك كله لم يبقَ لي مستقبل أفكر فيه، إلا أن ينوّر الله بصيرتي ويريني طريقي فأعمل للمستقبل الباقي، للآخرة، وإنّي لَفي غفلة عنها.
فالمستقبل في الدنيا شيء لا وجود له؛ إنه يوم لن يأتي أبداً، لأنه إن جاء صار حاضراً وطفق صاحبه يفتش عن مستقبل آخر يركض وراءه. إنه -كما قلت مرة- مثل حزمة الحشيش المعلَّقة بخشبة مربوطة بسرج الفرس، تلوح أمام عينيه فهو يعدو ليصل إليها، وهي تعدو معه فلا يدركها أبداً.
إن المستقبل الحق في الآخرة، فأين منا من يعمل له؟ بل أين من يفكر فيه؟
وقد يكون هذا الذي أقوله فلسفة، ولكنها فلسفة واقعة، إنها حقائق لا يفكر فيها أحدٌ منّا. نحن كالمسافر في الباخرة أو في الطيارة، همّه الغرفة الجميلة أو المقعد المريح، يركب في الدرجة الأولى ويأكل أطيب الطعام ويَصْفَح الجرائد والمجلات، ينقل بصره فيما حوله أو تحته من المشاهد، ولكن هذا كله لأيام السفر، وأيام السفر معدودة. أفما كان خيراً له لو فكر فيما يريحه في إقامته في البلد الذي يمضي إليه؟ أما كان أنفع له لو تحمل بعض المتاعب في ليالي السفر القليلة، ووفّر ماله ليشتري به الراحة في سنوات الإقامة الطويلة؟ أم قد شغلته متعةُ السفر عن التفكير في سبب السفر، وجمالُ الطريق عن غاية الطريق؟