وكما كان قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة. الآية 198) يريد والله تعالى أعلم: أن تتجروا في الحج، لا أن حتماً عليهم أن يتجروا، كما كان قولهك {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} (النور، الآية 6.) وكما كان قوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} لا أن حتماً عليهم أن يأكلوا من بيوتهم, ولا بيوت غيرهم.
ثم قال: "والقصر في الخوف والسفر بالكتاب ثم بالسنة, والقصر في السفر بلا خوف سنة, والكتاب يدل على أن القصر في السفر بلا خوف رخصة من الله عز وجل لا أن حتماً عليهم أن يصقصروا كما ذلك في الخوف والسفر" انتهى1.
كأن الإمام الشافعي يشير إلى أن لفظة ((جناح)) تستعمل في المباحات والمرخصات دون العزائم والفرائض.
وإليكم بعض الأدلة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1-عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب إنما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} (النساء. الاية 101) .
فقد أمن الناس قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 2.
فقول التبي صلى الله عليه وسلم ((صدقة)) يدل صراحة بأنه ليس بعزائم. والمعلوم أن المتصدق عليه يكون مختاراً في قبول الصدقة وردها. والأمر في قوله.
فاقبلوا صدقته، أمر ندب لا أيجاب، ولا تناقض بين هذا الحديث, والحديث المتقدم "صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر" أي غير ناقص في الأجر والثواب لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك ما فيه من العلة.
قال الخطابي: "وفي هذا حجة لمن ذهب إلى أن الاتمام هو الأصل، ألا ترى أنهما قد تعجبا من القصر مع عدم شروط الخوف, فلوا كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك". انتهى.
قال الربيع: "قال الشافعي: فدل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله، والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصروا".