المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السموات والأرض، وما بثَّ فيهما من مخلوقات لا تُحصى، أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإِله القادر الحكيم، وهي السفن الضخمة التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر، محمَّلة بالأقوات والأرزاق، وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي وصدق القرآن.
اللغَة: {الجوار} جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تجري في الماء {كالأعلام} جمع علم وهو الجبل العظيم الشاهق قالت الخنساء:
وإِنَّ صخْراً لتأْتمُّ الهُداةُ به ... كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
{رَوَاكِدَ} ثوابت ساكنة لا تسير، من ركدَ الماء إذا سكن ووقف عن الجري {مَّحِيصٍ} مهرب ومخلص من العذاب {يُوبِقْهُنَّ} يهلكهنَّ يقال: أوبقه أي أهلكه {الفواحش} جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه كالزنى والقتل والشرك وغيرها {نَّكِيرٍ} منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب {عَقِيماً} لا تلد.
التفسِير: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البرح لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكن مؤمن صابر في البأساء، شاكر في الرخاء قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا وقال أبو حيان: وإنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإذا أراد أن ترسوا أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله قال القرطبي: أي ليعلم الكافر إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى لله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخصلون له العبادة {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ