3 - (49) قَالَ الْحَسَنُ: فَكَتَمْتُهَا الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَدَّثْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ. وَوَجَدْتُهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ وَشَكْلِهِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا.
قَالَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلْتُ أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ دُخُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ: كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ. وَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة وَلا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا.
فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ في [جزء] الأمة: إيثار أهل الفضل [بإذنه] وَقِسْمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ: فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ، فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ، وَيُشْغِلُهُمْ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ، وَالأُمَّةُ فِي مَسْأَلَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَإِخْبَارِهِمُ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ وَيَقُولُ: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ (?) الْغَائِبَ وَأَبْلِغُوا حَاجَةَ من لا يستطع إِبْلاغَهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلا ذَلِكَ، وَلا يقبل من أحد غيره.
-[151]- يدخلون [رواداً] (?) وَلا يَتَفَرَّقُونَ إِلا عَنْ ذَوَاقٍ، وَيَخْرُجُونَ أَدِّلَةً.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ يَصْنَعُ فِيهِ؟
فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَزِّنُ لِسَانَهُ إِلا فِيمَا يَعْنِيهِ، وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلا يُنَفِّرُهُمْ، وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ وَيُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ.
وَيُحَذِّرُ النَّاسَ وَيَحْتِرَسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يطوي عن أحدٍ بشره و [لا] خلقه.
وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ، وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ، وَيُحْسِنُ الْحَسَنَ وَيُقَوِّيهِ، وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوهِنُهُ.
مُعْتَدِلَ الأَمْرِ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ، لا يَغْفَلُ مَخَافَةَ أَنْ يغفلوا أو يميلوا لكل ذلك عنده عتاد، وَلا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ وَلا يُجَاوِزُهُ.
-[152]- الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ، أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعْمُّهُمْ نَصِيحَةً، وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحَسَنُهُمْ مُوَاسَاةً وَمُؤَازَرَةً.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ؟ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَجْلِسُ وَلا يَقُومُ إِلا عَلَى ذِكْرٍ، وَلا يُوطِنُ الأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْقَوْمِ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ.
وَيُعْطِي جُلَسَاءَهُ كُلا بِنَصِيبِهِ، لا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ.
مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ لحاجةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها [أو بميسور من القول].
قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهُ بَسْطَةً وَخِلْقَةً، فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً.
مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حلمٍ وحياءٍ، وَصَبْرٍ وأمانةٍ، لا تُرْفَعُ فِيهِ الأَصْوَاتُ، وَلا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ، ولا تثنى فلتاته، متعادلون يتفاضلون (?) فِيهِ -[153]- بِالتَّقْوَى، مُتَوَاضِعُونَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ، وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ، وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ.
وَسَأَلْتُهُ عَنْ سِيرَتِهِ فِي جُلَسَائِهِ؟
فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غليظٍ ولا سخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مشاح (?).
يتغافل عما لا يشتهيه ولا يؤيس منه [راجيه] وَلا يُجِيبُ فِيهِ، قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثلاثة: الْمِرَاءِ، وَالإِكْثَارِ، وَمَا لا يَعْنِيهِ.
وَتَرَكَ النَّاسَ من ثلاثة: كَانَ لا يَذُمُّ أَحَدًا، وَلا يُعَيِّرُهُ، وَلا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ.
لا يَتَكَلَّمُ إِلا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ، إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رؤوسهم الطَّيْرُ، فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا، وَلا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ، مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم (?).
-[154]- يضحك مما يضحكون [منه] (?)، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُ، وَيَقُولُ: ((إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا، فَأَرْفِدُوهُ)).
وَلا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلا عَنْ مُكَافِئٍ، وَلا يَقْطَعُ عَلَى أحدٍ حَدِيثَهُ فَيَقْطَعُهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ.
قَالَ: فَسَأَلْتُهُ كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ؟
فَقَالَ: كَانَ سُكُوتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِلْمِ، وَالْحَذَرِ، وَالتَّدَبُّرِ، وَالتَّفَكُّرِ.
فَأَمَّا تَدَبُّرُهُ: فَفِي تَسْوِيَةِ النَّظَرِ وَالاسْتِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَأَمَّا تَفَكُّرُهُ: فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى.
وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ فِي الصَّبْرِ، وَكَانَ لا يُغْضِبُهُ شَيْءٌ وَلا يَسْتَفِزُّهُ.
وَجُمِعَ لَهُ الْحَذَرُ فِي أَرْبَعٍ: أَخْذِهِ بِالْخَيْرِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَتَرْكِهِ الْقَبِيحَ لِيُنْتَهَى عَنْهُ، وَاجْتِهَادِهِ الرَّأْيَ فِيمَا يُصْلِحُ أُمَّتَهُ، وَالْقِيَامِ بِهِمْ، وَالْقِيَامِ فِيمَا جَمَعَ لَهُمُ الدنيا والآخرة.