هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على العزة، فما من صحابي إلا وكان ذليلاً في الكفر، فأعزه الله بدينه وإيمانه.
وانظروا إلى ابن مسعود كيف كان ذليلاً وسط مكة، ثم لما أسلم، ونشر الله الدين، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، ثم جاءت غزوة بدر الكبرى، التقى الصفان على غير ميعاد، فمن الذي ارتقى على صدر أبي جهل؟ وأبو جهل كان صنديداً من صناديد قريش، فارتقى ابن مسعود على صدر أبي جهل، وهو يكلمه بعزة الكافر: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم! فحز ابن مسعود رأسه، وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظروا إلى موقف سعد بن معاذ الذي رأى عزة الإسلام، عندما رمتهم العرب عن قوس واحدة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم له: نهادن غطفان بشطر تمر المدينة، فيقول له بعزة المسلم المؤمن: يا رسول الله! والله لقد كنا في ذل الكفر، وما نعطيهم من هذا التمر إلا قرى الضيف، أما وقد أعزنا الله بالإسلام فلا نعطيهم شيئاً، وعند ذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان والاعتزاز بالله جل في علاه ملأ قلبه فنزل على رأيه.
وانظروا إلى موقف عمر بن الخطاب يوم أحد، لما انهزم المسلمون بسبب مخالفتهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل من قتل من الصحابة، فقتل حمزة أسد الله، وقتل مصعب وأنس، وقتل كثير من الصحابة، وكاد أن يقتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نهاية الغزوة جاء أبو سفيان -قبل أن يسلم رضي الله عنه- فقال: أفيكم محمد؟ فقال: اللهم نعم.
فقال: أفيكم أبو بكر؟ قال: اللهم نعم.
فقال: أفيكم عمر؟ أفيكم علي؟ أفيكم عثمان؟ قالوا: اللهم نعم.
وانظروا إلى عزة الكافر الزائفة فقد قال: اعلُ هبل.
فسكت القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما منكم من أحد يرد عليه؟ فقال عمر: وما نقول يا رسول الله؟!) انظروا إلى عزة المؤمن المسلم الذي يعتز بدينه وبربه جل في علاه فقال: (قل: الله أعز وأجل، فقال: الله أعز وأجل، فقال: يا محمد! يوم بيوم بدر، يوم علينا ويوم لنا، يوم نساء ويوم نسر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفيكم أحد يرد عليه؟ فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).
وهنا نلمح عزة الدين حتى في الهزيمة؛ لأنه يقول بلسان حاله: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، هل تربصون بنا إلا الفوز بالشهادة، ودخول الجنة، وإلا النصر والعزة، ففي الحالتين العزة بالله جل في علاه موجودة.
وأيضاً كما تكون العزة في الهزيمة تكون العزة عند النصر، فهذا فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتح بيت المقدس للمسلمين دعا ربه قائلاً: اللهم رده إلينا رداً جميلاً ثم لما تم الفتح للمسلمين، أرسل أبو عبيدة إلى عمر؛ ليقوم عليه ليتسلَّم مفاتيح بيت المقدس، فجاء عمر فمر بمخاضة، وخلع نعليه، وتأبط نعليه، أي: جعل النعل تحت الإبط، ومشى حافياً ذلاً لله جل في علاه؛ لأنه يعلم أن الذل لله هو كمال العزة، فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! ما أحب أن القوم يرونك على هذه الحالة، فقال عمر بن الخطاب: إيه يا أبا عبيدة! لو قالها غيرك لصفعته، ثم قال له رضي الله عنه وأرضاه: كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين -انظروا العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولأهل الإسلام- ولو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
وفي صلح الحديبية عندما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين على بنود ظاهرها الإجحاف والظلم بالمسلمين، وباطنها نصر عظيم من الله عز وجل للمسلمين، فجاء عمر فقال: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعط الدنية في ديننا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا رسول الله ولن يضيعني الله) كما قال أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الفتح العظيم.
وهذا يبين لك أن عزة أهل الدين إنما تكون بالذل لله.
والرسول صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة دخل فاتحاً مكة فطأطأ رأسه، ويقال: إنه دخل بعمامة سوداء، وهذه السنة أميتت أيضاً في هذه الأزمان، وكان على رأسه المغفر، فدخل يطأطئ رأسه حتى لامست لحيته رحله من الذل والتواضع لله عز وجل.
وانظروا إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم بعدما أعزهم الله بهذا الدين، فهذا هارون الرشيد عندما بعث إلى نقفور ملك الروم رسالةً يوبخه فيها ليدفع الجزية، قال فيها وهو يهدد بعزة المسلم المؤمن: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما تراه لا ما تسمعه سآتيك بجنودٍ أولهم عندك، وآخرهم عندي.
وهذا نموذج آخر: ربعي بن عامر الذي ضرب لنا أروع الأمثلة في عزة المسلم، فعندما دخل على رستم قائد الجيوش الفرسية، دخل عليهم بسيف قصير وبرمح قصير يطعن به الفرش والنمارق، وهمَّ القوم أن يمنعوه، فقال: أنتم دعوتموني، فإن دخلت وإلا رجعت من حيث أتيت، فدخل عليهم، فنظر إليه ضاحكاً محتقراً هذا العبد الذي دخل بالثياب الرثة، لكن قلبه امتلأ عزةً بالله تعالى فقال له رستم: ما هذا السيف؟ وكان سيفاً صغيراً، فقال: هذا السيف أتقدم به في نحور الأعداء ولا أتأخر، وعند ذلك خاف القوم، ثم قال له: من أنتم، وماذا تريدون؟ فقال ربعي: (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه جل في علاه، ونخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) فهذه عزة المسلم تظهر عندما يتعبد العبد لله بهذه الصفة، وعندما يتذلل العبد لله جل في علاه.
وانظروا إلى محمد الفاتح كيف فتح الله له القسطنطينية عندما تذلل لربه عز وجل، وهي المدينة التي بشر بفتحها النبي صلى الله عليه وسلم من القرون الأولى.
وهذا قطز عندما رد على هولاكو الذي أعمل القتل في المؤمنين في بغداد مليون أو أكثر من مليون قتيل من العلماء وأفسد الكتب وغير ذلك، دخل فأعمل الفساد في بغداد فبعث الله عليه قطز وبيبرس اللذين جعلهما الله جل في علاه نصراً لهذا الدين، ودحراً لصحيفته التي أرسلها إلى قطز فرد عليه بالسيف قطعاً، وقال للرسول: لو كانت تقتل الرسل لقتلتك، ارجع بها إلى مولاك، ثم نصره الله لما اعتز بربه.
صفة العزة ضاعت منا الآن، وما من أحد يتعبد لله بهذه الصفة يمشي على الأرض عزيزاً بعز الله جل في علاه إلا أعزه الله، وجعل قلبه معلقاً بالعزيز الذي سيعزه، ولا يمكن أبداً أن يرضى له الذل لأن الله يحب أولياءه، فإن كنت ولياً لله فأنت من الأعزاء، وإن كنت غير ذلك فراجع نفسك، وتعبد لربك بهذه الصفات الجليلة العظيمة.