فالمقابلة إذن ليست بين الدِّين والعلم، ولكن بين طرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، وطرق اكتساب المعرفة الإنسانية البحتة، كطريق الحس المباشر لإدراك المعارف، وهو الإدراك القائم على المشاهدة والتجربة، وكطريق العقل لاستنباط المعارف التي لا تُدرك بالحس المباشر، وهذه الوسائل الإنسانية المختلفة وأدواتها التي تستخدمها، هي منحة من الله لعباده، حتى يستخدموها في اكتساب المعارف والعلوم، ولذلك كان الإنسان مسؤولاً عنها عند الله في مجال اكتساب العلم، فقال الله في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}

وهذه السوائل الإنسانية تقدم بدورها شهادة يقينية بالحقائق التي توصلت إليها، أو شهادة ترجيحية بالمعارف التي ترجحت لديها بغلبة الظن، وكذلك الوحي الجامع لطرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، هو أيضاً منحة من الله لعباده، وقد جعله الله للناس طريقاً لاكتساب طائفة من العلوم، وهي التي يطق عليها اسم علوم الدين، ونلاحظ أن أهم ما يختص بها العلوم الغيبية التي لا تدركها الحواس الإنسانية، ولا تستطيع العقول بوسائلها إثابتها مستقلة عن أنباء الدين.

أما الحقيقة بالنسبة إلى الأمور الوجودية (غير الاعتبارية وغير النسبية) فهي واحدة، والإدراك الحسي يقدم شهادة بما توصل إليه من نتائج نحو الحقيقة، ويرافق الإدراك الحسي الوسائل المادية التي يستخدمها الحس، كالملاحظة والتجربة مع الأدوات والآلات التي تثبت صحة شهاداتها، كالمقاييس والموازين والكواشف المختلفة، وذوات الإحساس المادي غير الإرادي الكيميائي والفيزيائي، حتى الذري الإلكتروني. والاستنتاج أو الاستدلال العقلي يقدم أيضاً شهادةً بما توصل إليه من نتائج نحو الحقيقة. ولا يمكن أن تتناقض نتائج الإدراك الحسي ونتائج الاستدلال العقلي إلا وأحدهما أو كلاهما مصاب بالخلل، وذلك لأن كلاً منهما منحة ربانية وضعها الخالق بين يدي الإنسان ليعرف بها حقائق الأشياء، كما وضع بين يدي كل منهما وسائل البحث التي تقدم شهاداتها عن مشاهداتها، والطرق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015