ما أراد من كرامته، من السّنة التي بعثه فيها، وذلك في شهر رمضان، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حِرَاء -كما كان يخرج لجواره- معه أهله؛ حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فجاءني وأنا نائم بنَمَطٍ من ديباج، فيه كتاب، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتّني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ وما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود إليّ بمثل ما صنع بي؛ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، قال: فقرأته، قال: ثم انتهى، ثم انصرفَ عنّي وهببْت من نومي؛ وكأنّما كتب في قلبي كتابًا.
قال: ولم يكن من خَلْق الله أحدٌ أبغضَ إليّ من شاعر أو مجنون؛ كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إنّ الأبْعَدَ -يعني نفسه- لشَاعر أو مجنون، لا تحدّث بها عنّي قريش أبدًا! لأعمدنّ إلى حَالِقٍ من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه فلأقتلنّها فلأستريحنّ.
قال: فخرجت أريد ذلك؛ حتى إذا كنت في وسط من الجبل؛ سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمّد، أنتَ رسول الله، وأنا جبريل، قال: فرفعتُ رأسي إلى السّماء؛ فإذا جبْرئيلُ في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبرئيل. قال: فوقفت أنظرُ إليه، وشغلني ذلك عمّا أردت؛ فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرفُ وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلتُ واقفًا ما أتقدّم أمامي، ولا أرجع ورائي؛ حتى بعثتْ خديجة رسلَها في طلبي؛ حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني. ثم انصرف عني وانصرفت راجعًا إلى أهلي؛ حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذِها مُضيفًا فقالت: يا أبا القاسم؛ أين كنت؟ فوالله لقد بعثتُ رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ. قال: قلت لها: إنَّ الأبْعَدَ لشاعر أو مجنون، فقالت: أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم! ما كان الله ليصنع ذلك بك مع ما أعلم منكَ من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلة رحمك! وما ذاك يا بن عمّ! لعلّك رأيت شيئًا؟ قال: فقلت لها: نعم. ثمّ حدّثتُها بالذي رأيت؛ فقالت: أبشرْ يابن عمّ واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها،