هذه هي أهم الحقائق التي نزلت سورة يوسف لتؤكدها من خلال سياق الأحداث التي حدثت والنتائج التي تحققت، وحتى لا تُنسى هذه الحقائق في خضم أحداث القصة: جاءت نهاية السورة لتقررها بصورة مباشرة، وتقول لنا بأنه كلما تزلزلت تصوراتنا عن إمكانية وقوع الفرج وانكشاف الضر، ومجيء النصر من أحد دون الله، ويئسنا تمامًا من ذلك، واتجهت القلوب بكليتها إلى ربها، كان الفرج والنصر أقرب مما يتخيله الجميع ومن خلال أهون الأسباب {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
هل نترك الأسباب؟!
وليس معنى هذا هو ترك الأخذ بالأسباب، وعدم بذل الجهد مع الناس، أو الانفصال عنهم، بل المقصد هو عدم التعلق القلبي بهم، أو الاعتقاد بأنهم يملكون كشف الضر عنا، أو أنهم يملكون القدرة على فك الحصار عن الدعوة ولو يسيرًا .. فالأمر كله لله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 17].
إن إقامة المشروع الإسلامي والتمكين لدين الله في الأرض لن يتم إلا من خلال التعلق التام بالله عز وجل، مع بذل غاية الجهد واستنفاد جميع الأسباب المتاحة، ومد جسور التعاون مع الجميع، وكيف لا ونحن مأمورون بذلك: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].
فالأخذ بالأسباب المشروعة جزء من شريعة الله، وجزء كذلك من قدر الله، وحين يتركها أهل الدعوة فهم مقصرون في أداء واجبهم، وفي نفس الوقت عليهم - مع بذلهم لعظيم الجهد واستنفادهم لجميع الأسباب المتاحة أمامهم - أن تكون قلوبهم متعلقة تمام التعلق بالله عز وجل من حيث كونه - سبحانه - هو مالك هذا الكون والمتصرف فيه، وأن الأمر كله بيده وأنه هو وحده القادر على كشف الضر وتفريج الكرب، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تضر الدعوة بشيء لم يأذن به الله فلن يتم لها ما أرادت {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102].
جهد البشر:
ومع التأكيد القرآني الدائم على أن الناصر هو الله، وأن كاشف الضر، وفارج الكرب هو الله، وأن الذي يمكن للعباد هو الله، إلا أنه يؤكد أيضًا على أن الفرج والنصر وكشف الضر يحتاج إلى ستار من الأسباب يتنزل عليه .. تأمل معي قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15].
إن هذا الدين لن يقام إلا بجهد الفئة المؤمنة، وجهادها المرير، واستنفادها لجميع الأسباب المتاحة أمامها، مع يقينها بأن هذا كله لا يشكل سوى ستارًا يستدعي قدر الله بالنصر والتمكين، ولو تعلقت قلوب الفئة المؤمنة بهذا الستار ولو يسيرًا لتأخر الفرج والنصر حتى يخلص تعلقها بالله وحده.