وحذروا به العواقب، لأنهم فارقوا الدنيا بعين قالية، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية، واشتروا الباقية بالفانية، فنِغمَ ما اتَّجروا وربحوا الدارين، وجمعوا الخيرين، واستكملوا الفضلين، بلغوا أفضل المنازل، بصبرِ أيامٍ قلائل، قطعوا الأيامَ باليسير، حذارَ يومٍ قمطرير، وسارعوا في المهلة، وبادروا خوفَ حوادث الساعات، ولم يركبوا أيامهم باللَّهو واللذات، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات، أوهن والثه قُوّتهم التعب، وَغيَّرَ لونَهم النَّصَب، وذكروا ناراً ذاتَ لهب، يتسارعون إلى الخيرات، منقطعين عن اللذات، بريئون من الريب والخنا، فهم خُرْسٌ فصحاء، عُمْيٌ بصراء، فعنهم تقصر الصفات، وبهم تدفع النقمات، وعليهم تتنزل البركات، فهم أحلى الناس منطقاً ومذاقاً، وأوفى الناس عهداً وميثاقاً، سراجُ العباد، ومنارُ البلاد، ومصابيحُ الدجى، ومعادنُ الرحمة، ومنابع الحكمة، وقوامُ الأمة، تَجَافى جنوبُهم عن المضاجع، فهم أقبلُ الناس للمعذرة، وأصفحُهم بالمغفرة، وأسمحُهم بالعطية، نظروا إلى ثواب الله بأنفُسٍ تائقة، وعيون وامقة، وأعمالٍ موافقة، فحلُّوا عن الدنيا مطيَّ رحالهم، وقطعوا منها حبالَ آمالهم، لم يدغ لهم خوفُ ربهم من أموالهم تليداً ولا عتيداً، فتراهم لم يشتهوا من الأموال كنوزَها، ولا من الأوبار خُزوزَها، ولا من المطايا عزيزَها، ولا من القصور مَشيدَها.
بلى! ولكنهم نظروا بتوفيق الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإلهامِه لهم، فحركهم ما عرفوا بصبر أيام قلائل، فصمُّوا عن المحارم، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم، وهربوا بأنفسهم عن المآثم، فسلكوا من السبيل رشاده،