وهو علم عقلي صعب قل من كان يحذقه في ذلك العصر. وهو أيضا علم يجعل صاحبه ينظر إلى قضايا العصر وأهل العصر بمنظار يختلف عن منظارهم. ولعل ذلك كان وراء نقد الفكون، كما سنرى، لأحوال قومه وعلمائهم ومتصوفتهم ودراويشهم. وكان أيضا قلقا من الحياة بينهم باحثا عن موطن لا ظلم فيه ولا منكرا ولا فسادا، حتى لقد فكر وهو في حوالي العشرين من عمره بالرحيل إلى الحجاز ثم عدل عنه، بل إنه خرج حتى من دار والده إلى دار أسلافه القديمة وبناها من جديد ووسع فيها واستقر بها، هروبا، كما يقول، من الضيق والتضييق. وكان لا يوافق حتى أقرب الناس إليه، وهو والده، في السماح لبعض المجاذيب بدخول المنزل، فلم يسعه إلا حجب زوجه عنهم. فالرجل إذن كان مستقلا في فكره، مستقلا في حياته، مستقلا في وظيفه.

ولكن بعد وفاة أبيه سنة 1045 أخذت حياة الفكون تتغير. وكان عمره عندئذ حوالي 57 سنة. وقد ورث عن والده رسميا وظائفه المذكورة: الإمامة والخطابة والتدريس ورعاية أوقاف الجامع أما الإمامة فقد عرفنا أنه كان يمارسها منذ صغره وكذلك التدريس، فليس في الأمر جديد فيهما. وأما الخطابة فالظاهر أنه قد تولاها أيضا بعض الوقت نيابة عن والده. وقد عرفت عنه فصاحة اللسان وقوة الحجة والتمسك بالقواعد منذ كان طالبا في علم النحو عند ابن راشد الزواوي ومحمد التواتي وكان بعضهم يلتجىء إليه أحيانا لكتابة الخطبة لهم، كما فعل أحمد بن باديس زوج خالته وخطيب جامع القصبة. وقد مدح الفكون جده على خروجه عن مألوف الخطبة بالجامع، إذ جعل خطبه تقوم على الحديث

طور بواسطة نورين ميديا © 2015