الملة أو خلق حنيفا فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده فإنه الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين الإسلام لقروبه ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت من المعارض وليس المراد أيضا مجرد قبول الفطرة لذلك فإن هذا القبول تغير بتهويد الأبوين وتنصيرهما بحيث يخرجان الفطرة عن قبولها وإن سعيا بين بنيهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول أيضا ليس هو الإسلام وليس هو هذه الملة وليس هو الحنيفية وأيضا فإنه شبه تغيير الفطرة بجدع البهيمة الجمعاء ومعلوم أنهم لم يغيروا قبوله ولو تغير القبول وزال لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل المراد أن كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره وإقراره له بربوبيته وادعائه له بالعبودية فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه وهذا من قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة فهكذا ما ولد عليه من الفطرة ولهذا شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في التأويل للرؤيا ولما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء اللبن والخمر أخذ اللبن فقيل له أخذت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه عليه دون غيره لمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها.

فصل: قال ابن عبد البر وقالت طائفة المراد بالفطرة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد أنه خلق خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقها إلى معرفة ربها قالوا والفاطر هو الخالق وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر قال شيخنا: "صاحب هذا القول أن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته" حين يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا أنهم أولاد المشركين قال أو ليس خياركم أولاد المشركين ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان.

فصل: قال أبو عمر وقال آخرون معنى قوله يولد على الفطرة يعني البداءة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقته من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم غير إيمانهم واعتقادهم قالوا والفطرة في كلام العرب البداءة وألفاظ المبتدئ وكأنه قال يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015