واجتماع الضدين محال قيل الشيء قد يكون محبوبا مرضيا من جهة ومكروها من جهة أخرى كشرب الدواء النافع الكريه فإن المريض يرضى به مع شدة كراهته له وكصوم اليوم الشديد الحر فإن الصائم يرضى به مع شدة كراهته له وكالجهاد للأعداء قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فالمجاهد المخلص يعلم أن القتال خير له فرضي به وهو يكرهه لما فيه من التعرض لإتلاف النفس وألمها ومفارقة المحبوب ومتى قوي الرضا بالشيء وتمكن انقلبت كراهته محبة وإن لم يخل من الألم فالألم بالشيء لا ينافي الرضا به وكراهته من وجه لا ينافي محبته وإرادته والرضا به من وجه آخر فإن قيل فهذا في حكم رضا العبد بقضاء الرب فهل يرضى سبحانه ما قضى به من الكفر والفسوق والعصيان بوجه من الوجوه قيل هذا الموضع أشكل من الذي قبله قال كثير من الأشعرية بل جمهورهم ومن اتّبعهم أن الرضا والمحبة والإرادة في حق الرب تعالى بمعنى واحد وأن كل ما شاءه وأراده فقد أحبه ورضيه ثم أوردوا على أنفسهم هذا السؤال وأجابوا بأنه لا يمتنع أن يقال أنه يرضى بها ولكن لا على وجه التخصيص بل يقال يرضى بكل ما خلقه وقضاه وقدره ولا نفرد من ذلك الأمور المذمومة كما يقال هو رب كل شيء ولا يقال رب كذا وكذا للأشياء الحقيرة الخسيسة وهذا تصريح منهم بأنه راض بها في نفس الأمر وإنما امتنع الإطلاق أدبا واحتراما فقط فلما أورد عليهم قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أجابوا عنه بجوابين أحدهما ممن لم يقع منه وأما من وقع منه فهو يرضاه إذ هو بمشيئته وإرادته والثاني لا يرضاه لهم دينا أي لا يشرعه لهم ولا يأمرهم به ويرضاه منهم كونا وعلى قولهم فيكون معنى الآية ولا يرضى لعباده الكفر حيث لم يوجد منهم فلو وجد منهم أحبه ورضيه وهذا في البطلان والفساد كما تراه وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضى ما وجد من ذلك وإن وقع بمشيئته كما قال تعالى: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فهذا قول واقع بمشيئته وتقديره وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضاه وكذلك قوله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} فهو سبحانه لا يحبه كونا ولا دينا وإن وقع بتقديره كما لا يحب إبليس وجنوده وفرعون وحزبه وهو ربهم وخالقهم فمن جعل المحبة والرضا بمعنى الإرادة والمشيئة لزمه أن يكون الله سبحانه محبا لإبليس وجنوده وفرعون وهامان وقارون وجميع الكفار وكفرهم والظلمة وفعلهم وهذا كما أنه خلاف القرآن والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة فهو خلاف ما عليه فطر العالمين التي لم تغير بالتواطي والتواصي بالأقوال الباطلة وقد أخبر سبحانه أنه يمقت أفعالا كثيرة ويكرهها ويبغضها ويسخطها فقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} وقال: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} ومحال حمل هذه الكراهة على غير الكراهة الدينية الأمرية لأنه أمرهم بالجهاد وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن ومحال أنه يحب ذلك ويرضى به وهو سبحانه يكره ويتقدس عن محبة ذلك وعن الرضا به بل لا يليق ذلك بعبده فإنه نقص وعيب في المخلوق أن يحب الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى وهذا الأصل من أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر وغلطهم فيه يوازن غلط النفاة في إنكار القدر أو هو أقبح منه وبه وتسلط عليهم النفاة وتمادوا على قبح قولهم وأعظموا الشناعة