هذا الباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر وقد تنازع الناس فيه هل هو واجب أو مستحب على قولين وهما وجهان لأصحاب أحمد فمنهم من أوجبه واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله ربا وذلك واجب واحتج بأثر إسرائيلي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليتخذ له ربا سواي ومنهم من قال هو مستحب غير واجب فإن الإيجاب يستلزم دليلا شرعيا ولا دليل يدل على الوجوب وهذا القول أرجح فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات وقد غلط في هذا الأصل طائفتان أقبح غلط فقالت القدرية النفاة الرضا بالقضاء طاعة وقربة والرضا بالمعاصي لا يجوز فليست بقضائه وقدره وقالت غلاة الجبرية الذين طووا بساط الأمر والنهي المعاصي بقضاء الله وقدره والرضاء بالقضاء قربة وطاعة فنحن نرضى بها ولا نسخطها واختلفت طرق أهل الإثبات في جواب الطائفتين فأجابهم طائفة بأن لها وجهين وجها يرضى بها منه وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقا ومشيئة ووجه يسخط منه وهو إضافتها إلى العبد فعلا واكتسابا وهذا جواب جيد لو وفوا به فإن الكسب الذي أثبته كثير منهم لا حقيقة له إذ هو عندهم مقارنة الفعل للإرادة والقدرة إيجاد به من غير أن يكون لهما تأثير بوجه ما وقد تقدم الكلام في ذلك بما فيه كفاية وأجابهم طائفة أخرى بأنا نرضى بالقضاء الذي هو فعل الرب ونسخط المقضي الذي هو فعل العبد وهذا جواب جيد لو لم يعودوا عليه بالنقض وبالإبطال فإنهم قالوا الفعل غير المفعول فالقضاء عندهم نفس المقضي فلو قال الأولون بأن للكسب تأثير في إيجاد الفعل وأنه سبب لوجوده وقال الآخرون بأن الفعل غير المفعول لأصابوا في الجواب وأجابتهم طائفة أخرى بأن من القضاء ما يؤمر بالرضا به ومنه ما ينهى عن الرضا به فالقضاء الذي يحبه الله ويرضاه نرضى به والذي يبغضه ويسخطه لا نرضى به وهذا كما أن من المخلوقات ما يبغضه ويسخطه وهو خالقه كالأعيان المسخوطة له فهكذا الكلام في الأفعال والأقوال سواء وهذا جواب جيد غير أنه يحتاج إلى تمام فنقول الحكم والقضاء نوعان ديني وكوني فالديني يجب الرضا به وهو من لوازم الإسلام والكوني منه ما يجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله وإن كانت بقضائه وقدره ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب وفي وجوبه قولان هذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله كعلمه وكتابه وتقديره ومشيئته فالرضا به من تمام الرضا بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا فبهذا التفصيل يتبين الصواب ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس فإن قيل فكيف يجتمع الرضا بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة والنفرة منها وكيف يكلف العبد أن يرضى بما هو مؤلم له وهو كاره له وإلا لم يقتض الكراهة والبغض المضاد للرضا