ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلا جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبدا رسولا وذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فأثنى عليه ونوه الله لعبوديته التامة له ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها فكان إخراجهم من الجنة تنكيلا لهم وإتماما لنعمته عليهم مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى فإنه يحب إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات وتكفير السيئات ودفع البليات وإعزاز من يستحق العز وإذلال من يستحق الذل ونصر المظلوم وجبر الكسير ورفع بعض خلقة على بعض وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها فالوقوف على الشيء لا بدونه وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله، الوجه الثامن والعشرون أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته فيظهر كماله المقدس وإن كان لم يزل كاملا فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن فمن جملة شؤونه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويشفي مريضا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويغيث ملهوفا ويحبر كسيرا ويغني فقيرا ويجيب دعوة ويقيل عثرة ويعز ذليلا ويذل متكبرا ويقصم جبارا ويميت ويحيي ويضحك ويبكي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدرها إلى مواقيتها التي وقتها لها وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء يوضحه، الوجه التاسع والعشرون أن كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرفه فيه بأنواع التصرف ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلاثة دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور ودارا أخلصها للألم والنصب وأنواع البلاء والشرور ودارا خلط خيرها بشرها ومزج نعيمها بشقائها ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته